الأحد، 7 نوفمبر 2021

الشيخ عبدالباسط والاثر السياسي

 



اجاب عبد الباسط عبدالصمد في أحد اللقاءات أنه لا يجد في أسلوبه المٌلحّن ضير، وزاد على ذلك بأنه يرى القران مُلحن بطبيعته، وهي فكرة رفضها كثير من معاصريه، ولكن على كل حال أكسبه أسلوبه الموسيقي شعبية واسعة كما طالته انتقادات عديدة، كالإذعان لذوق مستمعيه والمباهاة(الاستعراض). في النهاية تلاوة عبد الباسط انتشرت على نطاق واسع وساهمت بإنتاج نهج وتغيير للذوق العام نحو تفضيل أساليب مُلحنة.

تلاوة القرآن كانت تذاع على الإذاعة المصرية فور انطلاقها عام 1934 بتلاوة الشيخ محمد رفعت، ولاحقًا تم تعيين من هم أقل شهرة ك عبد الباسط عام 1950, وبحكم أن الإذاعة كانت تبث برنامجين فقط ما بين عام 34 و1953 فقد كانت خيارات المستمع قليلة، لكن التقنيات المستخدمة حينها وعدد العاملين كانت تمنع مزيد من الانتشار بين الناس.

دور المذياع كلاعب سياسي تصاعد بشكل كبير مع سيطرة الضباط الاحرار ممثلة لاحقًا بعبد الناصر وعزل الملك فاروق 1952,وتم تأميم الإذاعة واعتبرت كامتداد للحزب الحاكم والدولة وناقلة للثورة لعموم الناس وأهل القرى الشعبية لكسب المزيد من التأييد لمؤسسات النظام الجديد وزعيمه وتعزيز الهوية القومية الجديدة، وارتفع عدد الأجهزة المرخصة لاستقبال الصوت (راديوهات) من 238 ألف الى 405 ألف، ما بين 1950 و1956,وكان الاستماع لتلاوة القران الخيار الأول للعديد من أهل القرى.

بدأ المذياع يتوغل في حياة المواطن المصري اليومية حتى بدأ الناس يستمعون للموسيقى والقران من منازلهم وبدأ صوت عبد الباسط يٌعرف على مستوى أوسع. في تلك اللحظات الانتقالية قرر الضباط الاحرار في رفع مستوى تقنيات الإذاعة لجعل مصر مسيطرة على مستوى العرب ليس فقط للشرق الأوسط بل عالميًا، وتم إطلاق "محطة صوت العرب" لإعلان رسالة القومية العربية الناصرية للعالم العربي.

حاولت تلك الإستراتيجية خلق تجربة سماعية مشتركة لجميع العرب بإبراز الموسيقى المصرية كأساس جماعي مهم للعروبة، ويمكن ملاحظة بقايا هذا الامر لليوم، الذي تم تعزيزه وتمكينه إقليميا من قبل عبد الناصر من خلال سياسات مركزية اشتراكية ولا سيما احتكار الدولة للمؤسسات الدينية والإعلام. صوت العرب محطة وطنية تجمع بين الترفيه والاخبار واراء مشاركات متفرقة معينة، كما تبث تلاوات مصرية مختارة.

على الرقم من بداية عهد التلفزيون (1960) في مصر، استمرت مكانة المذياع خصوصا عندما أًعلن عن إطلاق إذاعة القران الكريم في القاهرة نحو الشرق الأوسط كاملًا، وتم استخدامه ليس فقط لإذاعة التلاوات، بل لصلاة الجمعة ولبعض المناسبات الدينية والحكومية، ساهمت في نشر التلاوة والتجويد المصري. لم توقف وفاة عبد الناصر 1970 عمل الإذاعة، واستمر الرئيس السادات الذي كان يطمح لكسب شرعية دينية ضد خصومه الإسلاميين لاحقًا باستخدامها.

عندما بدأ عبدالناصر بعمليات التأميم صادرت دولته المُنتج الإذاعي -مصرفون- صوت القاهرة, وقاد الى تضخيم نجوم الإعلام المصريين من ممثلين ومغنين وقراء في جميع انحاء العالم العربي والإسلامي في أوائل الستينات. وفي عام 1960 كان الشيخ محمد علي الحصري اول من قام بتسجيل القران كاملًا مرتلًا.

ولاحقًا عندما نهج السادات سياسة "الانفتاح" بعد حرب ال73 أكتوبر, شجعت دخول الاستثمارات الخارجية الخاصة التي سمحت باستيراد معدات انتاج الكاسيتات, التي وفرت وسيلة بديلة للموسيقى والتلاوة. وتم تحدي سيطرة الإذاعة مع انتشار صناعة الكاسيتات, التي وفرت وسيطة مختلفة لنقل الصوت, وبدأت طباعة صورة الشيخ عبد الباسط كجزء من عمليات بيع الأشرطة في حملة تجارية واسعة وكان الشيخ أول القراء دخولًا لهذا المجال التجاري.

وقع عبد الباسط عقد مع صوت القاهرة عام 1976 منعه عن تسجيل قراءته خارج وداخل مصر, لكن الشيخ كسر العقد بتسجيله مع شركة أخرى نتج عن ذلك محاكمة بين الشركات تدور حول مسألة ما إذا كانت تلاوات القرآن ، التي تعتبر نصًا مقدسًا ، مؤهلة للحماية بموجب حقوق النشر كمنتج فكري ، وبالتالي ينبغي اعتبارها "عملًا فنيًا" على النحو المنصوص عليه في القانون 430 لسنة 1955

صوت القاهرة لم تقاضي عبد الباسط، خوفا أنه قد يأتي شهرته بنتائج عكسية ويثير غضبًا عامًا. يبدو أن مسيرة عبد الباسط بدأ يتخللها محو الفصل بين ما هو مقدس وما هو علماني مما جعله في نهاية المطاف يٌصنف من فئة "المشاهير-فنانين- الخ " وقد ساعدت هذه الشهرة على محو التمييز بين القارئ والمغني من حيث الهوية المهنية للقارئ. كان الافتقار إلى التمييز أيضًا ملفتًا للنظر، مثل نشر المجلات والصحف المصرية صوراً لأشهر القراء، مثل عبد الباسط عبد الصمد أو أبو العينين شعيشع (1922-2011) وهم يعزفون على العود في التجمعات العائلية، أو قيام الشيخ مصطف إسماعيل بالاستماع لأداء زوجته في البيانو.

في السياق الغربي، تطورت ثقافة المشاهير مع وسائل الإعلام. والمشهور او النجم "يتماشى بشكل وثيق مع الثقافة العامة والوعي العام مما يعني أيضًا أن ثقافة المشاهير متجذرة في الثقافة الجماهيرية اليومية حيث يتيح تداول الأيقونات(المشاهير) وسيطًا للتداول والمداورة بشكل أكبر" وفقًا لهذا النهج، فإن المشهور هو نتيجة جزئيًا لصفات الفرد وتمثيله المستمر في وسائل الإعلام.

في السياق المصري برزت شهرة عبد الباسط عبد الصمد بالتوازي مع ظهور وسائل الإعلام الوطنية والعابرة للحدود، والتي ساهمت، إلى جانب الأحداث الجماهيرية الدينية، في شهرته، وفي نهاية المطاف إلى مكانته كمشهور.

كما كان الحال مع المطربين والفنانين، أبدى الجمهور اهتمامًا شديدًا بالحياة الشخصية لعبد الباسط عبد الصمد .بينما ساهمت الإذاعة المصرية بلا شك في نمو شهرته في منتصف الخمسينيات من القرن الماضي، ظهرت وسائل إعلام مصرية وعربية أخرى حاولت في جعل شخص الشيخ عبد الباسط وحياته الشخصية مادة اعلامية ، وهي سمة مشتركة بين النجوم . وعلى عكس مشاهير العصر الآخرين، مثل أم كلثوم (1898-1975)، لم يقم الشيخ بالترويج لأمور دعائية تجارية أو نشر معلومات عن أنشطته وحياته الشخصية. وبدلاً من ذلك، قامت وسائل الإعلام التي تسيطر عليها الدولة بتغطيته بشكل إيجابي وحافظت على اهتمامها بشخصيته كقاري، في المقابل، طالبوا بدعمه للدولة.

أصبحت شخصيات كـأم كلثوم والشيخ عبد الباسط رموز سياسية وانتصار قومي بفضل سياسات الإذاعة التي نشرت صوتهم, عندما زار الشيخ سوريا – حلب – عام 1956 تجمهر الناس حيث كتبت صحيفة "صوت الشعب" ان مسجد حلب لم يشهد مثل هذا التجمع منذ عصر سيف الدولة الحمداني في القرن العاشر, ومن بين الحضور كان 2000 امرأة, وهي ظاهرة غير معروفة على التجمعات الدينية, خلق هذا الامر اعتزاز عند المصريين.




بدأت بعض الصحف في مصر تٌطلق عليه اسم "عبدالباسط براندو" مثل اسم "مارلون براندون" كعلامة على إعجاب الفتيات به, كانت المجلات تُباع بسرعة هائلة حتى أن الشيخ نفسه لم يستطع شراء نسخة, ذكرت المجلة أن عبدالباسط تم استقباله في سوريا مثل مشاهير الأفلام وتم مطاردته من النساء المحجبات, حتى أن المجلة بدأت تسأل بعض المشاهير مثل ماجدة الصبحي وزوز نبيل وامينة نصر الدين عن جاذبية الشيخ الجنسية بالنسبة لهن!

بدأت المجلة بالتوسع ايضًا واتهمت الشيخ بأن حضوره حرض أحد المتزوجات وأم لثلاثة أطفال على تطليق زوجها والانتقال من حلب للقاهرة من أجل الشيخ، واٌرفقت المقالة بصورة مقربة لوجه الشيخ مع صورة كاريكاتورية لنساء يطاردن الشيخ.

وفرت صحيفة اهل الفن مساحة للشيخ لأن يرد على تلك الشائعات, وكان رد الشيخ أن الفتاة جاءت لمصر بعد طلب زوجها ان يساعدها الشيخ في بناء مسيرة في الإذاعة ولكنها فاجأته أنها طلقت زوجها وترغب بالزواج منه بغير علمه, وهو بدوره رفض العرض وطلب منها أن تعود لحلب فتحولت لحاقدة على الشيخ محاولة تشويه سمعته. وأضاف الشيخ أنه التقى بشيخ الأزهر عبد الرحمن تاج الذي اتفق معه أن نشر مثل تلك الشائعات المغرضة من قبل منافسيه. اضطر الشيخ لتغيير هاتفه بعد انهمار المكالمات عليه، وخصص ساعتين يومية للرد على رسائل محبيه.

تعاملت "أهل الفن" مع الشيخ بالحفاظ على مكانته الدينية ولكن عاملته كـ"مشهور ذو شعبية" وبدأت بسؤاله عن رأيه حول أمور غير دينية فنية وصرح خلالها أن ممثله المفضل يوسف وهبي، ومغنيه المفضل عبدالحليم حافظ واغنيته المفضلة "الحياة حلوة". وفلمه المفضل هو "الطارق المستقيم".






لم تكن تلك الأجوبة مشكلة بالنسبة للسياسيين حيث أن عبد الناصر كان صديق لعبد الحليم حافظ وساعدت تلك الإجابات على خلق صورة ذهنية أن الفنون ليست "غير أخلاقية", بل حتى أنه أجاب على سؤال عن راقصته المفضلة بأنه سمع عن تحية كاريوكا لكنه لم يشاهدها لأنه يرى أن مشاهدة تلك العروض "مٌفسدة".

جدير بالإشارة إلى أن عملية تأميم الأوقاف من قبل النظام الناصري وتدمير النظام القضائي الديني في الخمسينات. كانت مصحوبة بحملات صحفية ضد العلماء ، متحدين وضعهم كرجال دين, ومن الأمثلة البارزة الاتهام الذي وُجِّه في صيف عام 1955 إلى قاضيين دينيين بأنهما كانا على علاقة ببعض الفتيات. وفي تلك الأجواء كان الشيخ الشاب الوسيم عبد الباسط الذي كان حبه بالتنعم بالرفاهية وكونه محبوب من بين النساء جعله يبدو كهدف آمن للصحف.

لكن هذا تغير بعد تأميم عبد الناصر للصحافة في عام 1956. الذي نقل في ذلك العام إدارة دور النشر المطبوعة ، بما في ذلك دار أخبار اليوم ، ناشر مجلة الجيل إلى الحكومة. وألغى القانون نفسه الملكية الخاصة للصحف، وطالب أي مطبوعة جديدة بالحصول على ترخيص من الحكومة ، وعزز سيطرة الحزب الحاكم على وسائل الإعلام, بالتالي مكانة عبد الباسط أصبحت محمية,واستمر الامر في عصر السادات ومبارك.



بعد انتشار الأشرطة التجارية في السبعينيات ، سعت السلطات الدينية والحكومية ، وحتى القراء أنفسهم ، إلى إبقاء مهنة القارئ منفصلة عن الأعمال الاستعراضية ، متجنبة الارتباط بالموسيقى. ومع ذلك، ظل الجدل حول تداخل التلاوة اللحنية مع قطاع الترفيه مثارة للجدل إلى حد كبير في عصر عبد الباسط.

على غرار العديد من القراء نال عبد الصمد التقدير في المقام الأول لموهبته الصوتية ولم يتلق تعليمًا أزهريًا رسميًا كعالم ديني كان من شأنه أن يمنحه السلطة لاتخاذ موقف في القضايا العامة. لذلك حافظ على صورة محايدة في الجدل الحاد حول الشؤون الدينية والسياسية وتجنب التعليق على مواضيع مثيرة للجدل في مصر والدول الأجنبية التي زارها. وبدلاً من ذلك ، فقد وضع نفسه باستمرار على أنه مجرد قارئ ، لا مصلحة له سوى تلاوة القرآن في سبيل نعمة الله وخدمة الناس. ومع ذلك ، كموظف في وزارة الشؤون الدينية ، وبناءً على طلب الوزارة والأزهر ، شارك في العديد من الأحداث السياسية البارزة. على هذا النحو ، أعطى ختم الموافقة على سياسات وسياسات عصره وأعطاهم ختمًا إسلاميًا بتلاوة النص المقدس.

خدم الحفاظ على صورة غير سياسية حياته المهنية. فعُيِّن عبد الباسط قاضيًا بمسجد الإمام الشافعي عندما كان الملك فاروق الأول  لا يزال على العرش ، وفي عام 1952 قرأ القرآن في حفل افتتاح مسجد بورسعيد بحضور الملك. وظل محافظ على عمله  بعد تأميم النظام الناصري الأوقاف في عام 1952 ، وعزل العلماء من القضاء في عام 1955 ، مما أدى في النهاية إلى خلق احتكار ديني تسيطر عليه الدولة يعبر عن الهوية الوطنية.

شهدت تلك الفترة ايضًا توترات مع قارئ شاب ذو شعبية آخر ، هو محمد صديق المنشاوي – الذي على عكس عبدالصمد كان لديه علاقاته وشبكته الخاصة فرفض الأداء على الراديو وقراءة القرآن أيضًا في حدث سياسي لعبد الناصر.و سرعان ما تم التقليل من شأن تصرفه السياسي في الصحافة المصرية ، حيث  ألقى الشيخ باللوم على أسلوب البيروقراطيين الذين حاولوا دعوته.

 والذي زُعم أنهم قالوا: "سيكون لك شرف عظيم أن تكون حاضرًا في احتفال يقيمه ويحضره عبدالناصر". فأجاب: "لِمَ لا يكون الشرف لعبد الناصر الذي سوف يستمع لتلاوة  بصوت المنشاوي" وعلى أي حال شارك محمد صديق المنشاوي لاحقًا في العديد من الأحداث التي كان عبد الناصر حاضرًا فيها أيضًا.

 من العدل الافتراض ان صورة عبدالباسط المحايدة سياسيًا واستعداده للمشاركة في أي حدث تمت دعوته إليه ، زاد من مكانته بين ببيروقراطي الدولة وأسفر عن عدد من الدعوات.

في وقت لاحق ، بدأ إصلاح إداري لعام 1961 وإعادة تنظيم إدارة الأزهر وإخضاعها بالكامل للدولة المصرية ، وتحويل معلمي الأزهر إلى موظفين عموميين وجعل تعيين شيخ الأزهر قرار رئيس الجمهورية. أُجبر الأزهر والعلماء على الخضوع السياسي الكامل من خلال التبعية المالية والمحسوبية السياسية ، وتم حشدهم لتزويد الضباط الأحرار بالدعم الذي يحتاجونه في سعيهم الداخلي من أجل الشرعية

 من خلال مشاركته المتكررة في المناسبات التي يقيمها نظام عبدالناصر, ساهم عبد الصمد في إضفاء الشرعية الدينية عليه فشارك في افتتاح الاحتفالات السنوية لثورة ، وأدى في حفل افتتاح سد أسوان. والعديد من المصانع ، وقد قرأ القرآن في جنازة والد الرئيس عبد الناصر عام 1965. وبدورهم اهتموا بصورته في الصحافة. ورغم انه امتنع عن الإدلاء بتصريحات سياسية مباشرة بنفسه ، اعترف في وقت من الأوقات بأن كاتبه السياسي المفضل هو محمد حسنين هيكل (1923-2016) ، وهو من دعاة عبد الناصر. كان هذا هو أقرب تحدث به عبد الباسط عبد الصمد عن آرائه السياسية علنًا ، وربما يكون مؤشرًا على شبكته الشخصية والمهنية.

كانت صورته كقارئ وأيضًا كـ"ابن البلد" تتلاءم تمامًا مع أجندة عبد الناصر ، ثم لاحقًا ، أجندة السادات للمطالبة بالدعم الجماهيري في القرى المصرية. وفي أواخر الخمسينيات وأوائل الستينيات من القرن الماضي بدأت أيضًا موجة من الإصلاحات ، كان أحد أهدافها استغلال الاحتفالات بالمولد النبوي لأغراض دعائية ، ومن ثم حشد القُرى الشعبي لكسب التأييد للحكومة.

بعد وفاة عبد الناصر في 28 سبتمبر 1970 ، لم يغير أنور السادات توجه الأزهر والأوقاف. واستغل الأزهر كأداة لمساعدته في التغلب على المعارضة اليسارية والناصرية ، فضلاً عن الحركات الإسلامية السياسية الناشئة. واختار أنور السادات الشيخ مصطفى إسماعيل كقارئ رسمي له. لذلك لم يتم دفع عبد الباسط لمرافقة الرئيس في رحلته عام 1977 إلى القدس. وبعد معاهدة السلام مع إسرائيل عام 1979 ، طمأن مفتي مصر وإمام الأزهر مستمعي الراديو في كل من مصر والعالم العربي بأن الإسلام يوافق على مثل هذا الاتفاقيات.

على الرغم من أن عبد الباسط لم يعلق علنًا على الاتفاقية، إلا أن إذاعة تسجيل لتلاوته اية من سورة الأنفال تم بثه مرارًا وتكرارًا على الإذاعة المصرية:" وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ" هذا التركيز المتكرر على بث هذه الآية بهذا التوقيت اظهره كمدافع عن اتفاقية السلام.

لم يكن تنصيب الشيخ مصطف إسماعيل كقارئ رسمي للرئيس تأثير كبير على سمعة عبد الباسط. فقد عمل السادات على الترويج للبرامج الإسلامية في وسائل الإعلام التي تسيطر عليها الدولة منذ أوائل السبعينيات، مما أدى إلى زيادة اوقات بث التلاوات القرآنية، وكان صوت عبد الباسط عبد الصمد يُسمع أكثر من ذي قبل. وأصبح واجهة للإسلام المصري التقليدي في مواجهة قراء السعودية الذي تصاعدت شعبيتهم. ذهب عبد الباسط إلى حد الإعراب عن إعجابه بالرئيس عندما اشترى قطعة أرض في مسقط رأسه في منتصف السبعينيات لبناء مدرسة سميت على اسم أنور السادات.

عندما وصل حسني مبارك إلى السلطة عام 1981 ، كان عبد الباسط من اشهر القراء في مصر والعالم العربي ففي عام 1984 ، تم اعتماد أسلوبه وقبوله رسميًا من قبل السلطات الدينية ، حيث تم تعيينه أول رئيس لاتحاد القراء المشكل حديثًا (نقابة القراء). بعد وفاة محمود علي البنا عام 1985 ، تقديراً لإنجازاته ، تم تعيينه قاضيًا في أحد أرقى مساجد القاهرة -مسجد الحسين-. استمر في تلاوة القرآن في المناسبات الرسمية حتى بدأ مرض السكري يؤثر على صوته في عام 1987



في كثير من الحالات ، سبقت علاقة الأزهر ببلدان أخرى أيضًا المشاريع الاقتصادية والسياسية. لذلك ، في عهد عبد الناصر ، أصبح من الشائع بشكل متزايد أن يسافر القراء المصريين إلى الخارج كأعضاء في وفود الأزهر للمساهمة في إبراز القوة الناعمة لمصر في العالم الإسلامي وخارجه. وبسبب حرصه الشخصي على السفر ، لا شك أن عبد الباسط عبد الصمد قد زار دولًا أكثر من غيرها من القراء، ورافق عددًا من الوفود الرسمية بين عامي 1952 و 1987.

وبذلك ، ساهم ليس فقط في تأكيد السلطة الإسلامية لمصر ، ولكن أيضًا في ترسيخ صورة مصر الناصرية كراع للحركات والحكومات المناهضة للإمبريالية. ومن الأمثلة على ذلك زيارته عام 1963 إلى الجزائر ما بعد التحرير. واستقبال الرئيس أحمد بن بلة في ساحة الشهداء الشهيرة بالجزائر العاصمة وتلاوة القرآن في مسجد كتشاوة بعد أن نالت البلاد استقلالها. وبالمثل زيارته إلى ماليزيا عام 1956

حظيت رحلات عبد الباسط عبد الصمد إلى البلدان غير الإسلامية بتقدير كبير، وأصبحت وسيلة للدبلوماسية رفيعة المستوى، فضلاً عن كونها مصدر فخر وطني. في عام 1960، رافق الشيخ، عبد الناصر في زيارته لموسكو، وكما أوضحت الصحافة المصرية، أصبح أول قارئ يتلو القرآن في الكرملين. وبالمثل ، تمت تغطية زيارته إلى الولايات المتحدة عام 1971 ، وهي دولة سعى الرئيس السادات إلى تعزيز العلاقات معها ، ورحلته إلى الساحل الغربي للولايات المتحدة في عام 1980 ، وتمت تغطية واسعة النطاق .97 زيارة عبد الباسي عبد الحمد إلى باريس في عام 1985 أيضًا اكتسب اهتمامًا عامًا ، حيث أوضح في المقابلات كيف اشترى ولبس بدلة لأول مرة في حياته ، للتنقل في جميع أنحاء المدينة دون لفت الانتباه إلى نفسه ولمناسبة قام بحضورها، اجتمع فيها 4000 شخص ، نصفهم من غير المسلمين ، والنصف الآخر من المسلمين الفرنسيين والمغاربة والتونسيين والمصريين المقيمين في باريس.

حتى رحلاته الدولية الشخصية لم تكن خالية من البعد السياسي. ومن الأمثلة على ذلك رحلته إلى جنوب إفريقيا، وهي دولة تربطها صلات قوية بالقوى الإمبريالية، ودولة قطعت مصر العلاقات معها في عام 1961. عندما اصبح هناك بوادر من قبل الأمم المتحدة لانهاء نظام الفصل العنصري سبق هذا إعداد من قبل الجالية الإسلامية في جنوب إفريقيا لزيارة الشيخ، وكان وصوله إلى مطار جوهانسبرج أحد أهم الأحداث في إذاعة جنوب إفريقيا. حافظ عبد الصمد على صورة غير سياسية، وامتنع عن الإجابة على أسئلة الصحفيين المتعلقة بنظام الفصل العنصري طوال زيارته التي استمرت شهرًا. من ناحية أخرى، فقد ادرج آيات من سورة الحجرات في تلاوته في جميع خطاباته كتصريح في حد ذاته ليفتح باب لتأويل السياسي:" أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ"

كانت زياراته المتكررة للمغرب ، بما في ذلك قضاء رمضان عام 1961 هناك نتيجة صداقته مع ملك المغرب محمد الخامس ، حتى أن الملك عرض على عبد الباسط الجنسية المغربية ومنصبًا كقارئ. وقد رفض العرض، مما يبرز تعلقه العميق بوطنه، وهو ما احتفى به الإعلام المصري. واستفاد عبد الناصر أيضًا من هذه العلاقة الوثيقة، إذ طلب من عبد الباسط عبد الصمد أن يدعو محمد الخامس نيابة عنه(عبدالناصر) بوضع حجر الأساس للسد العالي في أسوان عام 1960.

كما جاءت الدعوات الخاصة مصحوبة بفوائد مالية. تجاوز مرتبه الذي حددته وزارة الشؤون الدينية المصرية ، فقد أمضى رمضان خلال 1970-77 في الكويت بدعوة من الشيخة بدرية سعود الصباح ، ورمضان 1978-1984 في أبو ظبي والشارقة ، و رمضان 1985-87 في قطر ، يتلو القرآن ويكسب مبالغ كبيرة من المال. من المؤكد أنه كان على عبد الباسط ، بصفته موظفًا في وزارة الشؤون الدينية وأيقونة مصرية ، أن يطلب إذنًا رسميًا لرحلاته حتى عند دعوته بشكل خاص. فعلى سبيل المثال ، رفض عبد الناصر الإذن لعبد الباسط  بزيارة إيران في أوائل الستينيات ، بسبب التوترات السياسية المتزايدة بين النظامين.

في الختام

منذ أوائل الخمسينيات تطورت مسيرة عبد الباسط عبد الصمد بالتوازي مع مشروع وسائل الإعلام المصرية الوطني وتطوير إذاعة القاهرة ، وجعلها عاصمة التسجيلات في العالم العربي ، فانتشر صوته خارج مصر والشرق الأوسط. وفي الوقت نفسه شٌكلت وسائل إعلامية مختلفة رسخت عبر الصحافة ووسائل الإعلام التي تسيطر عليها الدولة المصرية صورته كقارئ "نجم (مشهور (celebrities" مما أدى إلى طمس الخط الفاصل بين "الشعبي" و "الديني" من خلال وضعه قارئ للنص القرآني في سياق مٌعلمن.



---