الأربعاء، 29 يوليو 2020

الماضي ذاكرة الحاضر، ما الزمن؟ (2)


خلاف الوقت 





سمحت لنا افكار اينشتاين النسبية بالتفكير بالزمن-الوقت بطريقة غير مطلقة على عكس فيزياء نيوتن، إذا كنت تواجه صعوبة في تصور هذا، فكر في الزمن كـما تفكر بإحداثيات المكان، تصور المسافة بين بيتك وبين عملك، يمكنك اتخاذ عدة طرق من بيتك لعملك وسيكون الطريق المستقيم مختلف عن الطريق غير المباشر، لكن ستظل دومًا المسافة بين النقطتين غير متغيرة، لا يهم المسافة التي قطعتها لتصل لعملك ستظل دومًا المسافة بين النقطتين معلومة، هل يمكنك تخيل الوقت بنفس المفهوم؟ ربما ستجد بعض الصعوبات بسبب ارتباط الزمن بالاتجاه (من الماضي للحاضر) ولا يوجد اتجاه محدد للمكان.

يطرح الفيلسوف الاسترالي "هُو برايس" اشكالية تصور الزمن نظرًا لمحاولتنا تصور الزمن من داخل الزمن، ويطرح مصطلح "nowhen" قد يصعب ترجمته بدقة للعربية بمعنى موقف للنظر من الأمور في محاولة للخروج من ايطار الزمن، اي الخروج من العالم، وهو ناقد لتصور بعض الفيزيائين المهمين في المجال، لذلك استفاد الفيزيائي شون كارول من هذا التصور، ماذا لو نظرنا للزمن من خارج العالم؟ هل نراه يجري كما يجري النهر (تصورنا الحالي للوقت)، الإجابه كانت -لا- ربما سنجد كل الاحداث تحدث بزمن واحد، - ماض،حاضر،مستقبل - بزمن واحد، أي كما يصف، تصور الكون كما تتصور كتاب بين يديك، تستطيع فتح أي صفحة بأي وقت أو ان تراه كله كقطعة واحدة.


اسهامات بولتزمان في الفيزياء تعتبر مهد الفيزياء الاحصائية والتي تتعلق بشكل اساسي بفهمنا للانتروبي، وهي الطريقة التي نفهم بها "الوقت" كما اوضحنا في الرقم (1) من السلسلة،وما قبل بولتزمان كانت افكار الفيزياء الحرارية سبب في ثورة الآلات البخارية ،وظهرت فرضيات حول ما يسمى موت حراري للكون كما تنسب للورد كلفن أو وليام توماسون، حيث تصور أن الكون سيصل إلى توازن حراري حتى يفقد تلك الطاقة الحرارية التي تحافظ على حركة الحياة، إذا كنت تواجه صعوبة في تخيل هذا الأمر، بفكرة مبسطة قم بتصور جسمان ساخن وبارد وكيفية تبادلهم للحرارة حتى تصل لحرارة الغرفة التي تضعهما بها، وقم بتطبيقها على الكون لاحقًا..وكما يصف شون كارول بشكل جميل، الطريقة الوحيدة للإجابة على سؤال لماذا نتذكر الماضي وليس المستقبل، هو افتراضنا الأساسي أن الماضي يحتوي على انتروبي اقل من المستقبل.






عودة للفيزياء الاحصائية، تصور أن لديك صندوق محكم الإغلاق يحتوي على غاز ما، ماهي إحتمال أن تتواجد كل ذرات الغاز بحركتها العشوائية في جانب واحد من الصندوق؟ الإحتمال قد يصل لرقم اكبر من عمر الكون، لكن ولو للحظة واحدة صغيرة هو ممكن وفق التقلبات الإحصائية - fluctuations -.


قد يبدو لك هذا المحتوى لا علاقته له بمفهوم الزمن،ولو قمت بفتح أي كتاب أو مقرر دراسي يتحدث عن القوانين الحرارية لن تجد فيه أي ما يتعلق بالزمان أو حتى علوم الكونيات بشكل عام،سيتم ايضاح علاقة الأمر بهذا بشكل متدرج، وكل ما عليك هو التذكر بالوقت الحالي، على ان تكون السلسلة الثالثة قفزة للنسبية..





الأحد، 26 يوليو 2020

النهاية هي البداية، ما الزمن؟ (1)


"ما الزمن؟ عندما لا يسألني أحدهم فأنا أدرك ماهو، أما إن وُجه لي هذا السؤال لشرحه، فلا اعرف" - القديس اوغستين


"لا يخطو المرء بنفس النهر مرتين" - هيرقليطس



قبل العزم على بدء طرح تصّور للزمن، جدير بالذكر أن جزء من الفيزياء الحديثة وما يتعلق بها تحت ما يسمى الكوسمولوجيا (علم الكونيات) هي تصورات قد لا يتفق أو يجمع عليها معظم العاملين في هذا المجال



ما الزمن؟


ما الفاصل بين الماضي والحاضر؟ قد يبدو الجواب البديهي هو مرور "الوقت" إلا أن الفيزيائين لا يملكون تعريف واضح للزمن ويبدو أنه غير جوهري فـي وصف الكون، يُشار مجازيًا لكلمة الانفجار العظيم بكلمة "بداية" للكون، وهي حالة ذات درجة عالية ومساحة ضئيلة ومنذ ذلك الوقت يتجه الكون للتوسع والبرودة، إذًا قد تبدو الإجابة واضحة، يوجد حركة واحدة "للزمان" لأن الكون يتطور بشكل واضح في اتجاه واضح وبطريقة لا يمكن عكسها، وهي فكرة مبسطة لكونك قادر على كسر بيضة لكن عودتها لـما كانت عليه بعد الكسر أمر مختلف، هذه النزعة للكون نُسميها بشكل مبسط "الانتروبي".


قد يقودنا هذا التصور للكون إلى التفكير المتسلسل التالي; إذا كان الكون ينزع للفوضى (زيادة في الانتروبي) بشكل مستمر، إذًا لا بد أنه بدأ من حالة منظمة (منخفضة الانتروبي)، إذًا جميع تصوراتنا الحياتية عن الوقت ومجرى العادة أو السببية تتعلق بمفهوم فيزيائي وهو زيادة في الانتروبي منذ الانفجار الكبير.


لماذا ينزع الكون هذه النزعة؟ قد لا يوجد جواب نهائي لهذه المسألة لكن يمكن أن نطرح السؤال بشكل مختلف، وهو هل الانفجار الكبير "بداية" الكون؟ قطاع من الفيزيائين يتفقون أن مصطلح "قبل" الانفجار الكبير هو مصطلح غير مفهوم لأنه لا يوجد مفهوم للوقت قبل حدوث الانفجار الكبير، لكن لقطاع اخر، السؤال مشروع حتى نمتلك نظريات فيزيائية أكثر شمولية، ويمكن تسمية الانفجار الكبير بـ "حالة" مر بها الكون بدل كلمة "بداية"، بالتالي يكون السؤال - لماذا مر العالم بهذه الحالة منخفضة الانتروبي؟ -. 


وهذا يطرح تصورات مختلفة عن الكون ككون متعدد الأكوان لم يبدأ أصلًا من حالة منخفضة الانتروبي، ويجب أن نتوخى الحذر مع كثرة التصورات المختلفة، ونتطرق لتفصيلها بشكل مبسط من عدة جوانب.




 "الزمن هو طريقة الطبيعة كي لاتحدث الأشياء كلها دفعة واحدة" -  جون ويلير الفيزيائي الذي ابتدع مسمى الثقب الأسود 


الحاضر ذاكرة الماضي؟

الزمن ما تقيسه مرور الساعة.

- الزمن هو وصف لمرور الاحداث.



قد يبدوان وصف واحد شائع للزمن-الوقت متشابهان، ومختلفة أو منفصلة لبعض الفيزيائين.



حتى نفهم التصور الحديث للفيزياء، فـ يجب أن نفهم ان الكون لم يعد يوصف بالمكان فقط بل بالزمكان (الزمان-المكان) ولا ينفصلان عن بعضهما، وهذا التحول بوصف الكون هو ثورة اينشتاين،وهو التصور الفيزيائي الذي سمح لنا بتصور "وقتين" أو "أوقات" بدل شكل واحد للوقت.


وهذا قدر كافي للمرحلة الاولى من السلسلة....


 المصادر:

في خاتمة السلسلة

السبت، 11 يوليو 2020

الأمير كنوت أو بداية الفلسفة




إذا تكلمنا عن الدين بما له من تاريخ في ضوء قراءة كوجيف الهيجلية (HEGELIAN) والتي ترتكز بشكل اساسي على جدلية السيد-العبد، فقد نحصل على ثلاث أشكال: ديانة الرغبة وديانة الصراع وديانة الشغل. يمكن أن نصنف تدرج الأشكال وفق مضمونها الاجتماعي والسياسي، ترتكز ديانات الرغبة والصراع على مضمون سياسي واجتماعي حق أقل من ديانة الشغل كـ "من يتقاتل حتى الموت لا النصر حيث لا معنى للحفاظ على حياة الخصم ولا حتى كعبيد", حتى يصل لديانة المصري القديم بنّاء الأهرامات متجاوزًا طبيعة الأشياء، لكن شغل المصريين شغل كـ “النحلة بالخلية" ممهدًا ظهور الدين اليوناني، أو دين الفنان، في هذا الطور يظهر حديث الإنسان حول الميثولوجيا، انتقال صورة الالهة أبو الهول (حيوان-انسان) إلى ابولو وزيوس (إنسان).
إن ما ينطوي عليه هذا التحول هو إعلاء شأن الكلمة وهي ليست إعلاء لكلمة السلطان المقدسة إنما الكلمة في سياقها الجدلي التعليلي والمُناقش، اليوم نعلن ولادة الفلسفة بما هي فن خطابة وبراهين، وولادة السفسطة بما هي أداة لتحليل الخطاب، وولادة المنطق (ارسطو) بما هو منطق المحتمل والمرجح الذي يسيطر على النقاشات. إن الشكل العقلاني لإدارة مؤسسات المدينة يتناقض مع الإجراءات الطقوسية القديمة لكنه لا يستبعدها بشكل جذري.
وما هذه الأشكال إلا تمهيد للشكل المسيحي حيث تحقيق العبد لذاته، لكنه مازال لا يحققها أو لا "يعمل" على تحقيقها.


وصاحب الأدلوجة المسيحية يُدرك نقصان الفعل بأدلوجة الشك والعدمية ويسقط بتناقضات ادلوجته الجديدة لضعف تطبيقاتها "وما دام أن لا قيمة عنده للوجود والحياة إلا ان الشكي لا ينتحر وإنما هو يظل يتشبث بالحياة وذلك هو تناقضه الأكبر" فهو لن ينكر طابع وجوده المتناقض إنما سيبرره بأدلوجته المسيحية. والحال أن يبدأ بتفريغ العالم الغيبي من مضامينه ويعيده للعالم الدنيوي، وهو إن تأمل شأنه فهو ملحد-مسيحي حيث حول الشأن الغيبي لشأن محايث، "وهما أدلوجتان ظاهرهما التعارض وباطنهما التكامل". والحق أن يبدأ لاحقًا إدراك أن القانون شأن فعل لا نظر وأن العمل لا صنيعة فكره إنما صنيعة فعله والأدلوجة تكون حقيقة في الصراع والشغل، وهنا يحقق الأمير كنوت مثاله اليوتوبي المسيحي في الأرض، الشيء الذي لن يتحقق إلا بسيطرته على هذا العالم وفرض سيادته عليه " إن العالم المسيحي ثورة طويلة الأمد سعى المسيحي إلى الإقامة في هذا العالم الذي بدأ بالهروب منه"، يدرك الأمير كنوت هذا الفارق في تجلي موت راغنار، "من هو هذا العاقل في هذه الحياة؟ هل تدرك لماذا تموت؟ هل هناك من يعرف كيف يحب؟"، إذًا يرفض كنوت ألا يؤخذ عالمه مأخذ الجد.
تمثل قفزة الأمير كنوت قفزة من أدلوجة العبد وذلك أن ليس لشعبه هروب من خارج العالم فبدل "حسبي أن يعترف بي الإله" إلى طلب أن يعترف به قومه، وهذا معنى أن تخلق المسيحية تعارضًا بين الإنسان وعالمه (امثولة خارج العالم) ثم يثور ويتمرد على العالم ويحقق الامثولة ويتحول لأدلوجة المسيحي-الملحد، وهذه نزعة الإلحاد عند كوجيف أي هي تحقيق المثال الديني – فردية،حرية،مساواة،إخاء – وهي إزالة للدين بما هي دين وهو مآل كل إيمان، وهي مدفوعة بتصور تجسد المسيح، وإنسان ما بعد الثورة ملحد لا يعي إلحاده.


يدرك كنوت أن أخذنا للحياة محمل الجد والحياة بما هي نُظم هي مقولة دينية فبلا تلك المقولة لا يمكن أخذ العالم الا بما هو ملهاة
"أوَ ليس من شان عالم بلا إله ان يكون عالمًا بلا معنى أي أن يكون عالمًا من عدم؟

الاثنين، 20 أبريل 2020

هوامش على "الرد على المنطقيين" - ابن تيمية



-"وأمّا هو في نفسه فبعضه حق، وبعضه باطل والحق الذي فيه كثير منه أو أكثره لا يحتاج إليه، والقدر الذي يحتاج إليه منه فأكثر الفطر السليمة تستقل به، والبليد لا ينتفع به، والذكي لا يحتاج إليه...وقل من قال إن كله كلام حق كلام باطل، بل كلامهم في الحد والصفات والقياس والبرهان ومواده من الفساد ما قد بينّاه في غير هذا الموضع...والله أعلم" - الفتاوى

-"ومعلوم أن أفضل هذه الامة من الصحابة والتابعين لهم بإحسان، وأئمة المسلمين – عرفوا ما يجب عليهم وكمل علمهم وإيمانهم قبل أن يُعرف منطق اليونان فكيف يقال إنه لا يوثق بالعلم إن لم يوزن به أو يقال إن فطر بني آدم في الغالب لا تستقيم الا به" – الرد على المنطقيين

"وإمام صناعة الطب ابقراط له فيها من الكلام الذي تلقاه أهل الطب بالقبول، ووجدوا مصداقه بالتجارب...ومع هذا فليس هو مستعينًا بشيء من هذه الصناعة (المنطقية) بل كان قبل واضعها"

 يوجز الدكتور رفيق العجم طبيعة كتاب الرد على المنطقيين للشيخ ابن تيمية (نسخة طباعة دار الفكر اللبناني –ص23-) ببحثين رئيسين للشيخ:

1-بحث الحد والتصور.
2-بحث القياس والتصديق.

ويلخص الشيخ موجز قول المنطقيين في العلم قبل الإسهاب، حيث ينقل عنهم أنهم قسموا العلم لـ إما "تصور" وإما "تصديق".

وكل منهما إما "بديهي" وإما "نظري", ومن المعلوم أن ليس كلi بديهي ولا يجوز أن يكون كله نظري لأنه مفتقر للبديهيات.

إذًا لابد من طريق لننال النظري. فالطريق الذي ينال به التصّور هو "الحد" والطريق الذي ينال به التصديق هو "القياس"

إذًا الحد هو اسم جامع لكل ما يعرف التصّور وهو القول الشارح.

أما مواد القياس فهي القضايا التي يستدل بها على غيرها، فإن استدليت بـ "كلي" على "جزئي" فيسمى قياس شمول، واستدلال جزئي على كلي فهو استقراء او قياس تمثيل.

والتفريق هنا ضروري لرؤية الشيخ ان قياس الشمول وقياس التمثيل يعودان لبعضهما في النهاية ولا يمكن القول إن قياس الشمول يفيد اليقين لوحده دون قياس التمثيل.

-الحد:
والموقف العام للشيخ إن الحدود ليست ضرورية في العلم لأنها لا تفيد تصور الحقائق
مثال: لو حدّينا الإنسان بأنه=حيوان ناطق، فهذه مجرد دعوى خالية من الحجة.

والحد عندهم (أي المناطقة)
ينقسم إلى (صفات ذاتية) وهي ما كانت داخلة في الماهية وتتوقف حقيقية الشيء عليه ولا يمكن تصور الذات دونه.
و صفات (عرضية) وهي ما كانت خارجة عن الماهية (كالبياض في الجسم) ويمكن تصور الذات دونه.

وهو عند الشيخ مجرد دعاوي اصطلاحية او تصورات ذهنية لا وجود لها في الوجود الخارجي، لكون جميع الصفات (الحدود) لازمة للمحدود ولا يمكن تقسيمها

والحد عند الشيخ يجب أن يقوم على الصفات العرضية لأنها هي ما يميز المحدود ويجعله يختلف عن غيره.

وينسحب هذا على نقد الشيخ لمعرفة الإنسان بالكليات (قياس الشمول) وأنها أتم واعم واشمل من معرفة الإنسان بالجزئيات (قياس تمثيل) فيرى الشيخ أن القضايا الكلية لم تكن لتكون بدون تصورات جزئية, فإن كان معرفة الجزئي هو الطريق لمعرفة الكلي, إذًا من قال ان قياس الشمول يحصل دون قياس التمثيل قوله فاسد.

بالتالي القضايا الكلية المطلقة لا توصل إلى معرفة بدون تعلقها بالجزئيات وهي تقديرات ذهنية فقط, فلا معنى لمعرفتنا بوجود "إنسان مطلق" أو "حيوان مطلق", بالتالي لا معنى ل"العلم المطلق" و"الفاعل المطلق"..الخ وعلى هذا الأساس لا يمكن التوصل إلى معرفة الله وما يختص به عن غيره.

فالعلم النافع هو العلم المعين الموجود بالخارج.