الأحد، 7 نوفمبر 2021

الشيخ عبدالباسط والاثر السياسي

 



اجاب عبد الباسط عبدالصمد في أحد اللقاءات أنه لا يجد في أسلوبه المٌلحّن ضير، وزاد على ذلك بأنه يرى القران مُلحن بطبيعته، وهي فكرة رفضها كثير من معاصريه، ولكن على كل حال أكسبه أسلوبه الموسيقي شعبية واسعة كما طالته انتقادات عديدة، كالإذعان لذوق مستمعيه والمباهاة(الاستعراض). في النهاية تلاوة عبد الباسط انتشرت على نطاق واسع وساهمت بإنتاج نهج وتغيير للذوق العام نحو تفضيل أساليب مُلحنة.

تلاوة القرآن كانت تذاع على الإذاعة المصرية فور انطلاقها عام 1934 بتلاوة الشيخ محمد رفعت، ولاحقًا تم تعيين من هم أقل شهرة ك عبد الباسط عام 1950, وبحكم أن الإذاعة كانت تبث برنامجين فقط ما بين عام 34 و1953 فقد كانت خيارات المستمع قليلة، لكن التقنيات المستخدمة حينها وعدد العاملين كانت تمنع مزيد من الانتشار بين الناس.

دور المذياع كلاعب سياسي تصاعد بشكل كبير مع سيطرة الضباط الاحرار ممثلة لاحقًا بعبد الناصر وعزل الملك فاروق 1952,وتم تأميم الإذاعة واعتبرت كامتداد للحزب الحاكم والدولة وناقلة للثورة لعموم الناس وأهل القرى الشعبية لكسب المزيد من التأييد لمؤسسات النظام الجديد وزعيمه وتعزيز الهوية القومية الجديدة، وارتفع عدد الأجهزة المرخصة لاستقبال الصوت (راديوهات) من 238 ألف الى 405 ألف، ما بين 1950 و1956,وكان الاستماع لتلاوة القران الخيار الأول للعديد من أهل القرى.

بدأ المذياع يتوغل في حياة المواطن المصري اليومية حتى بدأ الناس يستمعون للموسيقى والقران من منازلهم وبدأ صوت عبد الباسط يٌعرف على مستوى أوسع. في تلك اللحظات الانتقالية قرر الضباط الاحرار في رفع مستوى تقنيات الإذاعة لجعل مصر مسيطرة على مستوى العرب ليس فقط للشرق الأوسط بل عالميًا، وتم إطلاق "محطة صوت العرب" لإعلان رسالة القومية العربية الناصرية للعالم العربي.

حاولت تلك الإستراتيجية خلق تجربة سماعية مشتركة لجميع العرب بإبراز الموسيقى المصرية كأساس جماعي مهم للعروبة، ويمكن ملاحظة بقايا هذا الامر لليوم، الذي تم تعزيزه وتمكينه إقليميا من قبل عبد الناصر من خلال سياسات مركزية اشتراكية ولا سيما احتكار الدولة للمؤسسات الدينية والإعلام. صوت العرب محطة وطنية تجمع بين الترفيه والاخبار واراء مشاركات متفرقة معينة، كما تبث تلاوات مصرية مختارة.

على الرقم من بداية عهد التلفزيون (1960) في مصر، استمرت مكانة المذياع خصوصا عندما أًعلن عن إطلاق إذاعة القران الكريم في القاهرة نحو الشرق الأوسط كاملًا، وتم استخدامه ليس فقط لإذاعة التلاوات، بل لصلاة الجمعة ولبعض المناسبات الدينية والحكومية، ساهمت في نشر التلاوة والتجويد المصري. لم توقف وفاة عبد الناصر 1970 عمل الإذاعة، واستمر الرئيس السادات الذي كان يطمح لكسب شرعية دينية ضد خصومه الإسلاميين لاحقًا باستخدامها.

عندما بدأ عبدالناصر بعمليات التأميم صادرت دولته المُنتج الإذاعي -مصرفون- صوت القاهرة, وقاد الى تضخيم نجوم الإعلام المصريين من ممثلين ومغنين وقراء في جميع انحاء العالم العربي والإسلامي في أوائل الستينات. وفي عام 1960 كان الشيخ محمد علي الحصري اول من قام بتسجيل القران كاملًا مرتلًا.

ولاحقًا عندما نهج السادات سياسة "الانفتاح" بعد حرب ال73 أكتوبر, شجعت دخول الاستثمارات الخارجية الخاصة التي سمحت باستيراد معدات انتاج الكاسيتات, التي وفرت وسيلة بديلة للموسيقى والتلاوة. وتم تحدي سيطرة الإذاعة مع انتشار صناعة الكاسيتات, التي وفرت وسيطة مختلفة لنقل الصوت, وبدأت طباعة صورة الشيخ عبد الباسط كجزء من عمليات بيع الأشرطة في حملة تجارية واسعة وكان الشيخ أول القراء دخولًا لهذا المجال التجاري.

وقع عبد الباسط عقد مع صوت القاهرة عام 1976 منعه عن تسجيل قراءته خارج وداخل مصر, لكن الشيخ كسر العقد بتسجيله مع شركة أخرى نتج عن ذلك محاكمة بين الشركات تدور حول مسألة ما إذا كانت تلاوات القرآن ، التي تعتبر نصًا مقدسًا ، مؤهلة للحماية بموجب حقوق النشر كمنتج فكري ، وبالتالي ينبغي اعتبارها "عملًا فنيًا" على النحو المنصوص عليه في القانون 430 لسنة 1955

صوت القاهرة لم تقاضي عبد الباسط، خوفا أنه قد يأتي شهرته بنتائج عكسية ويثير غضبًا عامًا. يبدو أن مسيرة عبد الباسط بدأ يتخللها محو الفصل بين ما هو مقدس وما هو علماني مما جعله في نهاية المطاف يٌصنف من فئة "المشاهير-فنانين- الخ " وقد ساعدت هذه الشهرة على محو التمييز بين القارئ والمغني من حيث الهوية المهنية للقارئ. كان الافتقار إلى التمييز أيضًا ملفتًا للنظر، مثل نشر المجلات والصحف المصرية صوراً لأشهر القراء، مثل عبد الباسط عبد الصمد أو أبو العينين شعيشع (1922-2011) وهم يعزفون على العود في التجمعات العائلية، أو قيام الشيخ مصطف إسماعيل بالاستماع لأداء زوجته في البيانو.

في السياق الغربي، تطورت ثقافة المشاهير مع وسائل الإعلام. والمشهور او النجم "يتماشى بشكل وثيق مع الثقافة العامة والوعي العام مما يعني أيضًا أن ثقافة المشاهير متجذرة في الثقافة الجماهيرية اليومية حيث يتيح تداول الأيقونات(المشاهير) وسيطًا للتداول والمداورة بشكل أكبر" وفقًا لهذا النهج، فإن المشهور هو نتيجة جزئيًا لصفات الفرد وتمثيله المستمر في وسائل الإعلام.

في السياق المصري برزت شهرة عبد الباسط عبد الصمد بالتوازي مع ظهور وسائل الإعلام الوطنية والعابرة للحدود، والتي ساهمت، إلى جانب الأحداث الجماهيرية الدينية، في شهرته، وفي نهاية المطاف إلى مكانته كمشهور.

كما كان الحال مع المطربين والفنانين، أبدى الجمهور اهتمامًا شديدًا بالحياة الشخصية لعبد الباسط عبد الصمد .بينما ساهمت الإذاعة المصرية بلا شك في نمو شهرته في منتصف الخمسينيات من القرن الماضي، ظهرت وسائل إعلام مصرية وعربية أخرى حاولت في جعل شخص الشيخ عبد الباسط وحياته الشخصية مادة اعلامية ، وهي سمة مشتركة بين النجوم . وعلى عكس مشاهير العصر الآخرين، مثل أم كلثوم (1898-1975)، لم يقم الشيخ بالترويج لأمور دعائية تجارية أو نشر معلومات عن أنشطته وحياته الشخصية. وبدلاً من ذلك، قامت وسائل الإعلام التي تسيطر عليها الدولة بتغطيته بشكل إيجابي وحافظت على اهتمامها بشخصيته كقاري، في المقابل، طالبوا بدعمه للدولة.

أصبحت شخصيات كـأم كلثوم والشيخ عبد الباسط رموز سياسية وانتصار قومي بفضل سياسات الإذاعة التي نشرت صوتهم, عندما زار الشيخ سوريا – حلب – عام 1956 تجمهر الناس حيث كتبت صحيفة "صوت الشعب" ان مسجد حلب لم يشهد مثل هذا التجمع منذ عصر سيف الدولة الحمداني في القرن العاشر, ومن بين الحضور كان 2000 امرأة, وهي ظاهرة غير معروفة على التجمعات الدينية, خلق هذا الامر اعتزاز عند المصريين.




بدأت بعض الصحف في مصر تٌطلق عليه اسم "عبدالباسط براندو" مثل اسم "مارلون براندون" كعلامة على إعجاب الفتيات به, كانت المجلات تُباع بسرعة هائلة حتى أن الشيخ نفسه لم يستطع شراء نسخة, ذكرت المجلة أن عبدالباسط تم استقباله في سوريا مثل مشاهير الأفلام وتم مطاردته من النساء المحجبات, حتى أن المجلة بدأت تسأل بعض المشاهير مثل ماجدة الصبحي وزوز نبيل وامينة نصر الدين عن جاذبية الشيخ الجنسية بالنسبة لهن!

بدأت المجلة بالتوسع ايضًا واتهمت الشيخ بأن حضوره حرض أحد المتزوجات وأم لثلاثة أطفال على تطليق زوجها والانتقال من حلب للقاهرة من أجل الشيخ، واٌرفقت المقالة بصورة مقربة لوجه الشيخ مع صورة كاريكاتورية لنساء يطاردن الشيخ.

وفرت صحيفة اهل الفن مساحة للشيخ لأن يرد على تلك الشائعات, وكان رد الشيخ أن الفتاة جاءت لمصر بعد طلب زوجها ان يساعدها الشيخ في بناء مسيرة في الإذاعة ولكنها فاجأته أنها طلقت زوجها وترغب بالزواج منه بغير علمه, وهو بدوره رفض العرض وطلب منها أن تعود لحلب فتحولت لحاقدة على الشيخ محاولة تشويه سمعته. وأضاف الشيخ أنه التقى بشيخ الأزهر عبد الرحمن تاج الذي اتفق معه أن نشر مثل تلك الشائعات المغرضة من قبل منافسيه. اضطر الشيخ لتغيير هاتفه بعد انهمار المكالمات عليه، وخصص ساعتين يومية للرد على رسائل محبيه.

تعاملت "أهل الفن" مع الشيخ بالحفاظ على مكانته الدينية ولكن عاملته كـ"مشهور ذو شعبية" وبدأت بسؤاله عن رأيه حول أمور غير دينية فنية وصرح خلالها أن ممثله المفضل يوسف وهبي، ومغنيه المفضل عبدالحليم حافظ واغنيته المفضلة "الحياة حلوة". وفلمه المفضل هو "الطارق المستقيم".






لم تكن تلك الأجوبة مشكلة بالنسبة للسياسيين حيث أن عبد الناصر كان صديق لعبد الحليم حافظ وساعدت تلك الإجابات على خلق صورة ذهنية أن الفنون ليست "غير أخلاقية", بل حتى أنه أجاب على سؤال عن راقصته المفضلة بأنه سمع عن تحية كاريوكا لكنه لم يشاهدها لأنه يرى أن مشاهدة تلك العروض "مٌفسدة".

جدير بالإشارة إلى أن عملية تأميم الأوقاف من قبل النظام الناصري وتدمير النظام القضائي الديني في الخمسينات. كانت مصحوبة بحملات صحفية ضد العلماء ، متحدين وضعهم كرجال دين, ومن الأمثلة البارزة الاتهام الذي وُجِّه في صيف عام 1955 إلى قاضيين دينيين بأنهما كانا على علاقة ببعض الفتيات. وفي تلك الأجواء كان الشيخ الشاب الوسيم عبد الباسط الذي كان حبه بالتنعم بالرفاهية وكونه محبوب من بين النساء جعله يبدو كهدف آمن للصحف.

لكن هذا تغير بعد تأميم عبد الناصر للصحافة في عام 1956. الذي نقل في ذلك العام إدارة دور النشر المطبوعة ، بما في ذلك دار أخبار اليوم ، ناشر مجلة الجيل إلى الحكومة. وألغى القانون نفسه الملكية الخاصة للصحف، وطالب أي مطبوعة جديدة بالحصول على ترخيص من الحكومة ، وعزز سيطرة الحزب الحاكم على وسائل الإعلام, بالتالي مكانة عبد الباسط أصبحت محمية,واستمر الامر في عصر السادات ومبارك.



بعد انتشار الأشرطة التجارية في السبعينيات ، سعت السلطات الدينية والحكومية ، وحتى القراء أنفسهم ، إلى إبقاء مهنة القارئ منفصلة عن الأعمال الاستعراضية ، متجنبة الارتباط بالموسيقى. ومع ذلك، ظل الجدل حول تداخل التلاوة اللحنية مع قطاع الترفيه مثارة للجدل إلى حد كبير في عصر عبد الباسط.

على غرار العديد من القراء نال عبد الصمد التقدير في المقام الأول لموهبته الصوتية ولم يتلق تعليمًا أزهريًا رسميًا كعالم ديني كان من شأنه أن يمنحه السلطة لاتخاذ موقف في القضايا العامة. لذلك حافظ على صورة محايدة في الجدل الحاد حول الشؤون الدينية والسياسية وتجنب التعليق على مواضيع مثيرة للجدل في مصر والدول الأجنبية التي زارها. وبدلاً من ذلك ، فقد وضع نفسه باستمرار على أنه مجرد قارئ ، لا مصلحة له سوى تلاوة القرآن في سبيل نعمة الله وخدمة الناس. ومع ذلك ، كموظف في وزارة الشؤون الدينية ، وبناءً على طلب الوزارة والأزهر ، شارك في العديد من الأحداث السياسية البارزة. على هذا النحو ، أعطى ختم الموافقة على سياسات وسياسات عصره وأعطاهم ختمًا إسلاميًا بتلاوة النص المقدس.

خدم الحفاظ على صورة غير سياسية حياته المهنية. فعُيِّن عبد الباسط قاضيًا بمسجد الإمام الشافعي عندما كان الملك فاروق الأول  لا يزال على العرش ، وفي عام 1952 قرأ القرآن في حفل افتتاح مسجد بورسعيد بحضور الملك. وظل محافظ على عمله  بعد تأميم النظام الناصري الأوقاف في عام 1952 ، وعزل العلماء من القضاء في عام 1955 ، مما أدى في النهاية إلى خلق احتكار ديني تسيطر عليه الدولة يعبر عن الهوية الوطنية.

شهدت تلك الفترة ايضًا توترات مع قارئ شاب ذو شعبية آخر ، هو محمد صديق المنشاوي – الذي على عكس عبدالصمد كان لديه علاقاته وشبكته الخاصة فرفض الأداء على الراديو وقراءة القرآن أيضًا في حدث سياسي لعبد الناصر.و سرعان ما تم التقليل من شأن تصرفه السياسي في الصحافة المصرية ، حيث  ألقى الشيخ باللوم على أسلوب البيروقراطيين الذين حاولوا دعوته.

 والذي زُعم أنهم قالوا: "سيكون لك شرف عظيم أن تكون حاضرًا في احتفال يقيمه ويحضره عبدالناصر". فأجاب: "لِمَ لا يكون الشرف لعبد الناصر الذي سوف يستمع لتلاوة  بصوت المنشاوي" وعلى أي حال شارك محمد صديق المنشاوي لاحقًا في العديد من الأحداث التي كان عبد الناصر حاضرًا فيها أيضًا.

 من العدل الافتراض ان صورة عبدالباسط المحايدة سياسيًا واستعداده للمشاركة في أي حدث تمت دعوته إليه ، زاد من مكانته بين ببيروقراطي الدولة وأسفر عن عدد من الدعوات.

في وقت لاحق ، بدأ إصلاح إداري لعام 1961 وإعادة تنظيم إدارة الأزهر وإخضاعها بالكامل للدولة المصرية ، وتحويل معلمي الأزهر إلى موظفين عموميين وجعل تعيين شيخ الأزهر قرار رئيس الجمهورية. أُجبر الأزهر والعلماء على الخضوع السياسي الكامل من خلال التبعية المالية والمحسوبية السياسية ، وتم حشدهم لتزويد الضباط الأحرار بالدعم الذي يحتاجونه في سعيهم الداخلي من أجل الشرعية

 من خلال مشاركته المتكررة في المناسبات التي يقيمها نظام عبدالناصر, ساهم عبد الصمد في إضفاء الشرعية الدينية عليه فشارك في افتتاح الاحتفالات السنوية لثورة ، وأدى في حفل افتتاح سد أسوان. والعديد من المصانع ، وقد قرأ القرآن في جنازة والد الرئيس عبد الناصر عام 1965. وبدورهم اهتموا بصورته في الصحافة. ورغم انه امتنع عن الإدلاء بتصريحات سياسية مباشرة بنفسه ، اعترف في وقت من الأوقات بأن كاتبه السياسي المفضل هو محمد حسنين هيكل (1923-2016) ، وهو من دعاة عبد الناصر. كان هذا هو أقرب تحدث به عبد الباسط عبد الصمد عن آرائه السياسية علنًا ، وربما يكون مؤشرًا على شبكته الشخصية والمهنية.

كانت صورته كقارئ وأيضًا كـ"ابن البلد" تتلاءم تمامًا مع أجندة عبد الناصر ، ثم لاحقًا ، أجندة السادات للمطالبة بالدعم الجماهيري في القرى المصرية. وفي أواخر الخمسينيات وأوائل الستينيات من القرن الماضي بدأت أيضًا موجة من الإصلاحات ، كان أحد أهدافها استغلال الاحتفالات بالمولد النبوي لأغراض دعائية ، ومن ثم حشد القُرى الشعبي لكسب التأييد للحكومة.

بعد وفاة عبد الناصر في 28 سبتمبر 1970 ، لم يغير أنور السادات توجه الأزهر والأوقاف. واستغل الأزهر كأداة لمساعدته في التغلب على المعارضة اليسارية والناصرية ، فضلاً عن الحركات الإسلامية السياسية الناشئة. واختار أنور السادات الشيخ مصطفى إسماعيل كقارئ رسمي له. لذلك لم يتم دفع عبد الباسط لمرافقة الرئيس في رحلته عام 1977 إلى القدس. وبعد معاهدة السلام مع إسرائيل عام 1979 ، طمأن مفتي مصر وإمام الأزهر مستمعي الراديو في كل من مصر والعالم العربي بأن الإسلام يوافق على مثل هذا الاتفاقيات.

على الرغم من أن عبد الباسط لم يعلق علنًا على الاتفاقية، إلا أن إذاعة تسجيل لتلاوته اية من سورة الأنفال تم بثه مرارًا وتكرارًا على الإذاعة المصرية:" وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ" هذا التركيز المتكرر على بث هذه الآية بهذا التوقيت اظهره كمدافع عن اتفاقية السلام.

لم يكن تنصيب الشيخ مصطف إسماعيل كقارئ رسمي للرئيس تأثير كبير على سمعة عبد الباسط. فقد عمل السادات على الترويج للبرامج الإسلامية في وسائل الإعلام التي تسيطر عليها الدولة منذ أوائل السبعينيات، مما أدى إلى زيادة اوقات بث التلاوات القرآنية، وكان صوت عبد الباسط عبد الصمد يُسمع أكثر من ذي قبل. وأصبح واجهة للإسلام المصري التقليدي في مواجهة قراء السعودية الذي تصاعدت شعبيتهم. ذهب عبد الباسط إلى حد الإعراب عن إعجابه بالرئيس عندما اشترى قطعة أرض في مسقط رأسه في منتصف السبعينيات لبناء مدرسة سميت على اسم أنور السادات.

عندما وصل حسني مبارك إلى السلطة عام 1981 ، كان عبد الباسط من اشهر القراء في مصر والعالم العربي ففي عام 1984 ، تم اعتماد أسلوبه وقبوله رسميًا من قبل السلطات الدينية ، حيث تم تعيينه أول رئيس لاتحاد القراء المشكل حديثًا (نقابة القراء). بعد وفاة محمود علي البنا عام 1985 ، تقديراً لإنجازاته ، تم تعيينه قاضيًا في أحد أرقى مساجد القاهرة -مسجد الحسين-. استمر في تلاوة القرآن في المناسبات الرسمية حتى بدأ مرض السكري يؤثر على صوته في عام 1987



في كثير من الحالات ، سبقت علاقة الأزهر ببلدان أخرى أيضًا المشاريع الاقتصادية والسياسية. لذلك ، في عهد عبد الناصر ، أصبح من الشائع بشكل متزايد أن يسافر القراء المصريين إلى الخارج كأعضاء في وفود الأزهر للمساهمة في إبراز القوة الناعمة لمصر في العالم الإسلامي وخارجه. وبسبب حرصه الشخصي على السفر ، لا شك أن عبد الباسط عبد الصمد قد زار دولًا أكثر من غيرها من القراء، ورافق عددًا من الوفود الرسمية بين عامي 1952 و 1987.

وبذلك ، ساهم ليس فقط في تأكيد السلطة الإسلامية لمصر ، ولكن أيضًا في ترسيخ صورة مصر الناصرية كراع للحركات والحكومات المناهضة للإمبريالية. ومن الأمثلة على ذلك زيارته عام 1963 إلى الجزائر ما بعد التحرير. واستقبال الرئيس أحمد بن بلة في ساحة الشهداء الشهيرة بالجزائر العاصمة وتلاوة القرآن في مسجد كتشاوة بعد أن نالت البلاد استقلالها. وبالمثل زيارته إلى ماليزيا عام 1956

حظيت رحلات عبد الباسط عبد الصمد إلى البلدان غير الإسلامية بتقدير كبير، وأصبحت وسيلة للدبلوماسية رفيعة المستوى، فضلاً عن كونها مصدر فخر وطني. في عام 1960، رافق الشيخ، عبد الناصر في زيارته لموسكو، وكما أوضحت الصحافة المصرية، أصبح أول قارئ يتلو القرآن في الكرملين. وبالمثل ، تمت تغطية زيارته إلى الولايات المتحدة عام 1971 ، وهي دولة سعى الرئيس السادات إلى تعزيز العلاقات معها ، ورحلته إلى الساحل الغربي للولايات المتحدة في عام 1980 ، وتمت تغطية واسعة النطاق .97 زيارة عبد الباسي عبد الحمد إلى باريس في عام 1985 أيضًا اكتسب اهتمامًا عامًا ، حيث أوضح في المقابلات كيف اشترى ولبس بدلة لأول مرة في حياته ، للتنقل في جميع أنحاء المدينة دون لفت الانتباه إلى نفسه ولمناسبة قام بحضورها، اجتمع فيها 4000 شخص ، نصفهم من غير المسلمين ، والنصف الآخر من المسلمين الفرنسيين والمغاربة والتونسيين والمصريين المقيمين في باريس.

حتى رحلاته الدولية الشخصية لم تكن خالية من البعد السياسي. ومن الأمثلة على ذلك رحلته إلى جنوب إفريقيا، وهي دولة تربطها صلات قوية بالقوى الإمبريالية، ودولة قطعت مصر العلاقات معها في عام 1961. عندما اصبح هناك بوادر من قبل الأمم المتحدة لانهاء نظام الفصل العنصري سبق هذا إعداد من قبل الجالية الإسلامية في جنوب إفريقيا لزيارة الشيخ، وكان وصوله إلى مطار جوهانسبرج أحد أهم الأحداث في إذاعة جنوب إفريقيا. حافظ عبد الصمد على صورة غير سياسية، وامتنع عن الإجابة على أسئلة الصحفيين المتعلقة بنظام الفصل العنصري طوال زيارته التي استمرت شهرًا. من ناحية أخرى، فقد ادرج آيات من سورة الحجرات في تلاوته في جميع خطاباته كتصريح في حد ذاته ليفتح باب لتأويل السياسي:" أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ"

كانت زياراته المتكررة للمغرب ، بما في ذلك قضاء رمضان عام 1961 هناك نتيجة صداقته مع ملك المغرب محمد الخامس ، حتى أن الملك عرض على عبد الباسط الجنسية المغربية ومنصبًا كقارئ. وقد رفض العرض، مما يبرز تعلقه العميق بوطنه، وهو ما احتفى به الإعلام المصري. واستفاد عبد الناصر أيضًا من هذه العلاقة الوثيقة، إذ طلب من عبد الباسط عبد الصمد أن يدعو محمد الخامس نيابة عنه(عبدالناصر) بوضع حجر الأساس للسد العالي في أسوان عام 1960.

كما جاءت الدعوات الخاصة مصحوبة بفوائد مالية. تجاوز مرتبه الذي حددته وزارة الشؤون الدينية المصرية ، فقد أمضى رمضان خلال 1970-77 في الكويت بدعوة من الشيخة بدرية سعود الصباح ، ورمضان 1978-1984 في أبو ظبي والشارقة ، و رمضان 1985-87 في قطر ، يتلو القرآن ويكسب مبالغ كبيرة من المال. من المؤكد أنه كان على عبد الباسط ، بصفته موظفًا في وزارة الشؤون الدينية وأيقونة مصرية ، أن يطلب إذنًا رسميًا لرحلاته حتى عند دعوته بشكل خاص. فعلى سبيل المثال ، رفض عبد الناصر الإذن لعبد الباسط  بزيارة إيران في أوائل الستينيات ، بسبب التوترات السياسية المتزايدة بين النظامين.

في الختام

منذ أوائل الخمسينيات تطورت مسيرة عبد الباسط عبد الصمد بالتوازي مع مشروع وسائل الإعلام المصرية الوطني وتطوير إذاعة القاهرة ، وجعلها عاصمة التسجيلات في العالم العربي ، فانتشر صوته خارج مصر والشرق الأوسط. وفي الوقت نفسه شٌكلت وسائل إعلامية مختلفة رسخت عبر الصحافة ووسائل الإعلام التي تسيطر عليها الدولة المصرية صورته كقارئ "نجم (مشهور (celebrities" مما أدى إلى طمس الخط الفاصل بين "الشعبي" و "الديني" من خلال وضعه قارئ للنص القرآني في سياق مٌعلمن.



---


الخميس، 29 أبريل 2021

شريعتي وأدلجة الدين

 



مقدمة لاراء المفكر المؤثر في التشيع الثوري أو المثقف المحارب :

لن يتم التوسع وبذل مجهود في التعريف بحياة علي شريعتي و فكره . الغرض من هذا المقال هو تمهيد موجز لجزء محدد من افكاره و التي لاقت قدر كبير من الاهتمام و النقد في المناخ الفكري بعد الثورة الايرانية : أو مايسمى بـ " أدلجة الإسلام " .

علي شريعتي ( 1933-75 ) بلا شك كان احد اهم منّظري إسلاميي ما قبل الثورة , و خاصة من حيث أنه جعل الإسلام قوة سياسية للعديد من شبان وشابات الطبقة المتوسطة التقليدية الايرانية . قَدِم معظمهم من بلدات وقرى للدراسة في جامعة طهران أو الجامعة التي تأسست مؤخرا "اريا مهر للتكنولوجيا" والتي تعرف اليوم باسم جامعة شريف التقنية منتفعين من منح الحكومة. شريعتي من بين الاخرين قدم التشيع بشكل مغري و فاتن خاصة لأولئك الذين تلقوا تعليماً في العلوم الحديثة , وأقل في العلوم الإنسانية,و تربوا في عائلات شيعية متدينة.

هؤلاء الرجال و النساء بعيدين سياسيا عن النظام البهلوي و رجال الدين التقليدين، و تسلسله الهرمي الصارم في نظام المرجعية و اتباعهم "المقلديّن" المذعنين لهم. لقد حوصروا عاطفيًا ونفسيًا ما بين إيمانهم الذي تربوا عليه ورغبتهم بأن يستجيب دينهم لتطلعاتهم واحتياجاتهم المعاصرة، والتي سُيسَت على نحو متزايد.... اما من كانوا متأثرين بخطاب شريعتي و ومنجذبين للجماعات السياسية كـ حركة مجاهدي خلق , الصراع السياسي ضد اتواقراطية الشاه وارتفاع معدل الظلم الاجتماعي-الاقتصادي كان اولويتهم.

بإعادة احياء الاساطير والقصص و الشخصيات من العهود الاولى للاسلام خاصة من الطائفة الشيعية , برز خطاب ديني لينافس الايدولوجيات العلمانية و اصناف المذاهب الماركسية التي كان ينادي بها حزب "توده" الشيوعي , و فاديان خلق "سازمان فدائیان خلق ایران" . كما كان لشريعتي تأثير ملحوظ على مجموعات ثورية بارزة كمجاهدي خلق , فالعكس ايضا كذلك .

انتقاده كثيرًا سلبية رجال الدين و الادعاء بأنهم الممثل الشرعي الوحيد للإمام الغائب كان لها صدى بين الشباب الايراني المتدين وأصحاب المهن ,و الشباب الايراني المتعلم. لهذا السبب اُعتبر شخصية انتقالية وانقسامية. فقد  كان داعيًا لعقيدة جامدة والتي يُجادّل بأنها وفرت غطاء للعديد من الافكار الاستبدادية و النخبوية"elite" و التي قد تكون عنيفة. و في صعيد اخر صارع من اجل كسر احتكار رجال الدين للمعرفة الدينية و تعزيز حق الفرد في الاجتهاد دون تلقي تدريب المعاهد الدينية. كسره لـ التقليد سمح له بتأويل التشيع بطريقة غير تقليدية, بعيد جدًا عن النظرة "الارثوذكسية" بسببها تلقى العديد من الاستحسان والتملق, و الكثير من الاعداء ايضاً من المؤسسة الدينية . آية الله الخميني استطاع بمهارة قبل الثورة ان يبقى رأيه غامض نحو شريعتي متمنيا ان لا يُنفّر اي حليف ولا الشباب الذين قبلوه كـ قائد فكري و معلم .

فكر شريعتي بلا شك كان مؤثرا على اعضاء من نخبة الجمهورية الاسلامية على الرغم من تجاهلهم العديد من افكاره خصوصا عدم قبوله نظام رجال الدين, وبشكل او باخر قد تشربوا قدر كبير من خطابه,و الذي ساعدهم في مواجهة منافسيهم اليسارين وإظهار أٌلفتهم مع الافكار والفلسفة السياسية الحديثة. هذا التناضح ظهر بشكل تنافسي,مُمثلًا بالصدع الخطير الذي ظهر بين شريعتي و مرتضى مطهري,احد طلاب و وحلفاء الخميني,هذا يُظهر العلاقه الغامضة بين القادة الدينين لـ دولة ما بعد الثورة مع المُنّظر العامي الكاريزمي (بمعنى خارج سلك القادة الدينين) ,. مطهري باحث بارز و الذي ذهب بعيداً لحد تسميته " المُنظّر الايدولوجي للثورة الإسلامية " بلا شك لعب دور هام في " أدلجة الاسلام " و في ظهور " اللاهوت الجديد ( ثيولوجي) " ( علم الكلام الجديد ) , و الذي تلقاه المثقفين المتدينين مـا بعد الثورة و طوروه بمختلف الاتجاهات .

محاولة شريعتي الاشهر لتحويل التشيع لإيدولجيا للنضال الثوري تتجسد بالانقسام المختلق بين " التشيع العلوي " و "التشيع التشيع الصفوي " . التشيع العلوي أو تشيع علي و ذريته,في فكر شريعتي كان قبل كل شيء كـ كلمة " لا " و حركة احتجاج على الوضع الراهن ( يشبه بشكل كبير تمرد البير كامو , والذي كان مألوفا عند شريعتي ) , حيث يقول :

" الإسلام كان الدين الذي دخل تاريخ البشرية بـ الـ " لا " المحمدية , و صدع بها وإرث ابراهيم و بإعلاء توحيد الخالق ووحدة الخلق : " لا " بدأت بشعار التوحيد , الشعار الذي واجه به الاسلام الشرك , دين الاستقراطية و المنتفعين

و التشيع كان إسلام " لا " علي العظيمة – وإرث محمد و إعلاء إسلام العدالة و الحق.والتي وضعت شخصية واتجاه واضح في تاريخ الاسلام "

يكمل :

" في مدرسة علي..الشيعة , تجسد معاناة و امال الجموع البريئة المتمردة ضد ظلم الحكام ,وشعارها الأساسي : للتحرر من سلطان الطاغوت ( ولاية الجور) = (ولاية علي) ثم– الإمامة -ثم العدل

في نظر شريعتي جاء التشيع الصفوي ليقف مع الدولة و السلبية السياسية و التقاعس عن العمل و الاستبداد و الركود و الاستغلال الطبقي و القراءة الرجعية المتحجرة للتشيع .. أتاح التشيع "العلوي" لشريعتي الإجابة على سؤال " ما الذي يجب عمله " وهو السؤال الذي يكتبه عادة بأعماله,لاشك انها مقتبسة من الدعايه اللينينه ( لينين ) .

وفي عمل آخر,شريعتي يذهب للحد الذي يقول فيه احيانا ان العمل مُقدم على الإيمان , التشيع العلوي بالنسبه لشريعتي كان قوة ثورية تاريخيا , كان جهادا مستمراً, على المستوى النظري والممارسة ضد كل نظام مستبد متشبث بقمع الطبقات و التمييز الهرمي(الكهنوتي) , التشيع العلوي كان " حزباً ثوري مسلح " يملك ايدولجيا عميقة واضحة. و انطلاقا من هذا "إسلام" شريعتي مع بلاغته الخطابية كان " دنيوي " في جوهره, و مشروع سياسي,وهنا لعب هذا المذهب العقائدي دور المستنير كدعاية ترويجية لمسؤولية اجتماعية,و هنا يكمن تفرد اسلام شريعتي , على عكس الاديان الاخرى , فهو لا ينفصل عن السياسية .

هذا ما يقودنا إلى ما يسمى " مفارقة شريعتي " paradox , حيث أن التشيع عند شريعتي كان سياسيا , فمع تأسيس حكومتها الخاصه ستتعارض مع نشاطها و وظيفتها التنويرية الثورية كضمير الشعب , كما يقول " بعد الاستيلاء على السلطة , التشيع سيصبح متحكم بمصيره ومصير المجتمع , لكنه سيصل لمرحلة الجمود " ..  بهذه النظرة يمكننا القول بأن إمتلاك التشيع قوة السلطة مفسدة.

وعلى عكس الكثير من الإسلاميين,شريعتي اوصى بأن تكون الشريعة متلائمة مع ظروف الزمان والمكان والاحتياجات الاساسية للناس,وعلى الرغم من هذا اللين والبراغماتية الظاهرة,"الظروف" و"احتياجات الناس" تقررها السياسة,والتشيع عند شريعتي كان "حزب كامل" حزب بايدولجيا قوية خاصة بها,اسماها "الايدولجية الابراهيمية"وهي عقيدة جميع الأنبياء,التي دُعي الناس لها لتقودهم للخلاص والعدل", ويزيد"الايدولجيا هي إيمان مبني على الوعي بالذات والتوجيه والفداء والكمال والقيمة والمثل العليا والمسؤولية" الايدولوجيا تولد الوعي الذاتي وتخلق القيم,وتدفع المرء للفعل,ويدعّي بأن "الايدولوجيا تخلقك" مقتبسّا ماركس في تعليقه على فيورباخ,وبينما يراقب العَالِم والفيلسوف العالم,تقوم الايدولوجيا بعكس هذا,فتأمر بالخير وتمنع الشر,ولها قدرة لامثيل لها على التدمير والبناء على حد سواء .. " الايدولوجيا تخبرنا بما يجب أن يكون عليه الأمر..الفلسفة والعلم تخبرنا ماعليه الأمور فقط"

الأمر الجاذب في الايدولوجيا بالنسبة لشريعتي اعتقاده بأنها تهب معتنقها القدرة على تغيير العالم من حوله.وبشكل أكثر تحديدًا,تعطيه القدرة على التحول الراديكالي لمجتمعه والعلاقات الاجتماعية السائدة داخله.يسمح التطبيق العملي للايدويولجيا بكسر قيود العبودية وتحرير نفسه ومن حوله,يدّعي شريعتي بأن الايدولوجيا بجانبها النبيل والتقدمي,تتوافق وتتحدث نفس لغة الإسلام,الذي هو الدين الكامل,والفروق بين الإسلام والايدولوجيات التقدمية لايكاد يذكر:

الايدولوجيا:

رسالة – مهمة – التزام – مسؤولية – نضال – الناس

الإسلام:

دعوة – مهمة – واجب – مسؤولية – جهاد – الناس

ويذهب شريعتي لأبعد من ذلك,حيث ينص بشكل واضح بأن "الإسلام هو ايديولوجية وليست ثقافة أو فلسفة أو علم"

الإسلام والايديولجيا كلاهما عبارة عن مهمة ونضال باسم الناس,بالنسبة له,طبيعة الإنسان الحقيقية وانثروبيولوجيته الفلسفية المتمردة و الطوباوية,يمكن أن تُفهم في نزعة الإنسان لإكتساب الايدولوجيا "فعلى الاغلب,كل إنسان على مدار كل عصر في التاريخ يبني يوتوبيته الخاصة في عقله وفقًا لفهمه الخاص والأمور التي يجيدها"

كما هو الحال في كتابات الإسلاميين الإيرانيين مثل نواب صفوي وخميني ، فإن الجهد المتضافر لتخيل مجتمع مثالي خالٍ من التناقضات والإخفاقات يمر عبر تأملات شريعتي وخطاباته البلاغية. ما إذا كانت رؤى كل منهما مختلفة نوعيًا هو بالطبع سؤال آخر ، ولكن في جميع كتاباتهم ، يظهر دافع طوباوي معين لتخيل نظام سياسي مثالي ونقي بشكل متكرر.

أحد الاختلافات المثيرة للاهتمام هو أن شريعتي لا يتحدث إلا قليلاً عن الدولة في حد ذاتها ، بينما ركز نواب صفوي والخميني بشكل مباشر على سلطات وواجبات الدولة القومية الحديثة (الحكم) ، وإن كان ذلك بعبارات عامة إلى حد ما.  إعادة فكرة شريعتي في التسلسل الهرمي والنظام يتجلى في شكل الحزب والكادر والمفكرين المحاربين المستنيرين الذين مهمتهم إنقاذ الجماهير ، وربما حتى على الرغم من أنفسهم. أولئك الذين يظلون غير مستنيرين ويفشلون في الوصول إلى الوعي الذاتي تجاه مصيرهم السياسي يظلون "غير كاملين" وبمعنى ما "مشلولون"

يعين شريعتي فلسفة أنثروبولوجية معينة ، أو مفهوم "الطبيعة البشرية" ، ينسب معيارًا للسلوك البشري. أولئك الذين لا يلتزمون بهذه القواعد أو يتصرفون بالطريقة التي تنص عليها يعتبرون ناقصين أو غير مكتملين في الأساس. إن تطلع الإنسان إلى المدينة الفاضلة في فكر شريعتي هو أحد السمات الرئيسية التي تفصل الإنسان عن بقية مخلوقات الله.

 

نقطة أخرى ذات صلة يجب وضعها في الاعتبار هي أن شريعتي كان جديدًا في ذلك الوقت من حيث ثقافته وتأثيراته الفكرية. على عكس الإسلاميين الإيرانيين الآخرين ، كان رجلاً عاديًا لم يلبس العمامة مطلقًا ولم يزعم أبدًا أنه يتحدث نيابة عن رجال الدين أو يمثلون مصالحهم. في الواقع ، كانت العديد من تصريحاته رافضة - بل غالبًا ما كانت مليئة بهجمات محددة - رجال الدين التقليديين ، الذين اعتبرهم رجعيين تمامًا واعتذاريًين للوضع الراهن.

على الرغم من بعض المحاولات ما بعد الثورة لتصوير شريعتي كمدافع ملتزم عن ولاية الفقيه ، فإن المرشدين والمنقذين الذين كان يدورون في ذهنه في الواقع كانوا أشخاصًا مثله إلى حد كبير ، أو مثقفين أو مفكرين. يتم تقديم هؤلاء المثقفين كبدائل صريحة لرجال الدين ، الذين لم يعملوا في خدمة الأنظمة الاستبدادية عبر العصور فحسب ، بل قدموا أنفسهم زورًا على أنهم الوسطاء الوحيدون الحقيقيون والشرعيون بين الله والمؤمنين.

 

في مناسبات عديدة ، ندد شريعتي بأقوى العبارات برجال الدين باعتبارهم علامة على الرجعية والاستبداد. في مقالته  (العودة إلى الذات) ، على سبيل المثال ، يقول ، "استبداد رجال الدين هو أشد أشكال الاستبداد ضرر في تاريخ البشرية". هذا الخطاب المعادي للإكليروس سيظهر مرة أخرى سياسيًا في خطابات مجموعات مثل مجاهدين خلق (بعد يونيو 1981) ، و الفرقان ، وهي المجموعة السياسية الأولى التي تم حظرها بعد الثورة . سخرية شريعتي من رجال الدين لم توقفهم من استيعاب العديد من أفكاره إلى حد زيادة شعبيتهم ودعم جهودهم المتضافرة لتعبئة معظم الناس لصالح أهدافهم الأيديولوجية والسياسية.

يصبح مفهوم شريعتي النخبوي للطليعة الفكرية أو "المثقف المحارب (المجاهد)" ذا صلة هنا. غالبًا ما يصور المفكرين المحاربين على أنهم مجموعة تجسد طبيعة الإنسان الحقيقية ومصيره السياسي ، يسلط الضوء على الظلام الذي يحيط بالجموع الكادحة. وبواسطة التدخل الخيّر للمثقفين المحاربين،سيتم نقل وعي ذاتي جديد وشكل من أشكال الخلاص "الدنيوي" للجماهير ، والتي بدونها كان هؤلاء سيظلون مصابين بالعمى بسبب جهلهم الراسخ. المحارب المثقف هو الخليفة الحقيقي للنبي والوريث الشرعي لإرثه . كانوا أكثر من مجرد ثوار خاملين في نظر شريعتي. كانوا محاربين مستعدين للقتال باسم العدالة وتأسيس "نظام توحيد" .

كان خطاب شريعتي الخاص بالانتفاضة الثورية والكفاح المسلح جزءًا من تحول سياسي وفكري أوسع بدأ يكتسب أرضية بين النشطاء السياسيين والمثقفين بعد يونيو 1963 ، في أعقاب الثورة البيضاء وقمع الشاه للاحتجاجات اللاحقة. . هذا التحول البارديغمي ، بقيادة عدد من الرجال والنساء الناشطين سياسياً ، بمن فيهم مؤسسوا مجاهدي خلق ، حرض الكثيرين على الانفصال عن جماعات مثل حركة تحرير إيران (LMI) وفكرة الإصلاح السياسي السلمي من الداخل الذي وضعت معاييره من الشاه وخسرت فرصة تحقيق أهدافها.

دعم فكرة الكفاح المسلح ، باعتباره البديل الوحيد المتبقي ، وحّد مؤيدين بشكل كبير ، وكان نفسه تحت تأثير تطورات الأحداث الدولية والمثقفين الذين دافعوا عنها ، ويأتي على البال أمثلة مثل ، حرب الاستقلال الجزائرية والمستنقع الأمريكي في فيتنام. لقد استحوذت المقاومة المسلحة للتغلغل الإمبريالي وقدرة العالم الثالث على تقديم حلول عادلة ومحلية للممارسات الظالمة والاستغلالية الاستعمارية في وقت واحد على اذهان شريحة ضخمة من المثقفين الإيرانيين ، تمامًا كما استحوذت على اذهان العديد من الأعضاء. من المثقفين والمتعلمين في جميع أنحاء العالم النامي.

في ذهن شريعتي ، ينشغل المثقفون المحاربون أولاً وقبل كل شيء بالأفعال وليس التأمل ، وتحديداً بإقرار العدالة في الحاضر ، مثل النبي محمد نفسه عندما شرع في مهمته النبوية .وفقا لشريعتي هناك إسلام يتخذ شكل "أحكام ومراسم وطقوس عبادة غير مستنيرة موروثة " وإسلام آخر يتطلب خبرة علمية وتقنية أو "إسلام فني" ينتمي الإسلام الأول إلى المؤمن بالوراثة الذي لا يفكر ولا ينتقد ، والثاني لرجل الدين المهووس بالقواعد.

 

شريعتي يرفض كلاهما لصالح إسلام المحارب المفكر. إسلام المفكر المحارب هو "نور" ينير قلب المرء. هذا الإسلام ليس شكلاً من أشكال "الوعي التقني" ، كما يقول لنا ، بل هو الذات الطبيعية أو الفطرية. - ، والذي يشرع بعد ذلك في تحديده بـ "التنوير" ، و "التعرف على الطريقو "علم الإرشاد"  "المسار الصحيح" أو "المجتمع العادل" الذي سيقود إليه محاربو شريعتي الملتزمين الجماهير المضطهدة غالبًا ما يظل غامضًا. كثيرا ما يصفها بصفات مثل "عادل" و "متحرر" دون الخوض في مزيد من التفاصيل. في مرحلة ما ، على سبيل المثال ، تحدث بازدراء عن مصادر "التغريب" وتأثيرها السلبي على الثقافة الإسلامية الإيرانية:

إنهم [الغرب] قد لوثوا عالمنا برأسماليتهم وديننا بكنائسهم! إنهم يعلمون حداثييننا الغندقة والرقص وحفلات الكوكتيل وشرب الخمر والحريات الجنسية فقط باسم الحضارة .... لقد أيقظوا ببطء أعماق قلوبنا وعقولنا وإيماننا العقلاني والتقدمي والعملي والدين الانساني. لقد حجبوا وأفسدوا كل ما كنا نعتز به من قبل: الروح ، والشفاعة ، والدعاء ، والوصاية ، والاستشهاد .

ما هو مفهوم إلى حد ما هو أن شريعتي طالب باحترام والالتزام بمجموعة من القيم السياسية ، والتي رغم أنها ترتكز بالتأكيد في بيئة رمزية ثقافية تعتمد على الشخصيات العظيمة والأساطير في التاريخ الإسلامي المبكر ، إلا أنها لم تتجاوز قليلاً الشعارات البلاغية. بينما كان يشوه سمعة الغرب باعتباره تأثيرًا مفسدًا ويندد بالممارسات الثقافية وأنماط الحياة الغربية ، كان شريعتي نفسه في عبودية المشهد الفكري الغربي ، وخاصة الباريسي  كامو وسارتر وفانون والعديد من الأيديولوجيين والمنظرين الماركسيين.

 

ربما لن يكون من المبالغة القول إن تصوير شريعتي للتشيع يرجع في الواقع إلى الأفكار المهيمنة للوجودية الفرنسية ، و "العالم الثالث" لفانون ، وتمرد كامو ، أكثر من تلك المصادر التي كانت العمود الفقري التقليدي للشيعة. لم يكن دور المثقف المحارب هو الإسراف في التفكير في هذه القيم ولكن بتجسيدها بجرأة ، ليس لأنه قد عقلنها ويمكنه دعم موقفه بمجموعة من الأسباب الصحيحة والمبررة معرفيًا ، ولكن لأنه شعر وتوق بشدة لمثل هذه القيم. إدراك على مستوى طبيعته الأعمق. وقد تجسد هذا الموقف بشكل أفضل في رفيق النبي أبو ذر ، الذي صوره شريعتي في كثير من الأحيان على أنه اشتراكي أولي .

يتحدث شريعتي عن فترة انتقالية يختار فيها المجتمع المسلم القادة الذين يجسدون المثل الثورية للمجتمع بشكل أفضل. تختار الأمة شهيدها،رمز كل قيمها السامية والمثالية ، كقائد ،وتصل هذه المرحلة إلى حد أن يمثل كل عضو في الامة هذا الشهيد, حتى يصبح كل فرد قادر على تولي هذا الدور القيادي ، ويمكن لكل فرد داخل الأمة أن يكون شهيدًا في قضية الناس .... كل فرد في مجتمع محمد هو قائد للناس ".

إن مسألة كيفية تحديد الإجراء أو الآلية التي سيتم من خلالها تمكين أفراد المجتمع أو إحداث ثورة فيهم بشكل كافٍ للشروع في استشهادهم من أجل الصالح العام لم يتم تناولها من قبل شريعتي. وهكذا ، كما في حالة الوعود الماركسية "بتلاشي" الدولة في نهاية المطاف مع تفكك دكتاتورية البروليتاريا ، يُترك المتشكك ليتساءل عما إذا كان يوم الانتقال إلى "مجتمع متحرر" حقًا سيأتي بالفعل. في حين أن الإمامة مقبولة على أساس "أصالة فكرها" و "حقيقتها العقائدية" مع أدلتها الذاتية الواضحة في سياق الاضطرابات الثورية

 

في مقالته "الأمة والإمامة" (المجتمع والقيادة) ، يتحدث شريعتي بصراحة عن "دكتاتورية البروليتاريا" الماركسية  وما يصاحبها من كراهية تجاه الليبرالية و "الحرية الديمقراطية الغربية".  ينتقد المثقفين الإيرانيين الذين لا يزالون عالقين في التأكيدات القديمة لليبرالية في القرن التاسع عشر ويتجاهل الانتقادات التي تعرض لها بسبب إدانته للديمقراطية والدفاع عن "القيادة الملتزمة أيديولوجيًا" بالنسبة له,الليبرالية و شعاراتها لحرية التعبير والانتخابات الحرة تضعف جبهة المعركة إن الحياة التي يجب أن يعيشها أعضاء الأمة ليست حرة ومقيدة ، ولكنها متحدة ومسؤولة . وهذا تكفله بالنسبة لشريعتي فكرة الإمامة ، القيادة المجتمعية ، التي أصبحت على الأقل خلال هذه المرحلة من حياته المهنية مرادفة للكادر المستنير السالف الذكر من المثقفين الثوريين.

كما يؤكد شريعتي في عدد من المناسبات ، فإن الإمام إنسان ، لكنه يعمل كنموذج أو نموذج يجب أن يكون نموذج لأعضاء الأمة. وإذا اعتبر شخص ما نفسه جزءًا من المجتمع- الأمة - فيجب عليه قبول القيادة. يتضح تدريجياً أن شريعتي يدافع هنا عن نظير شيعي لـ "دكتاتورية البروليتاريا" الماركسية اللينينية ، أو على حد تعبيره ، "ديمقراطية موجهة"  والتي بموجبها تحكم المجتمع نخبة صغيرة أو ربما حتى رجل واحد .

في مرحلة ما ، أشار حتى إلى الفيلسوف الألماني فريدريك نيتشه ونظرية Übermensch أو "سوبرمان" كدليل على حاجة البشرية المتكررة لرجال عظماء لقيادة الجماهير باعتبارها مظهرًا من مظاهر "السمو المقدس" على الأرض وإيقاظهم من لامبالاتهم المتحجرة والرضا عن الحالة المتدهورة لحياتهم الرديئة.  ثم يذهب لينسب اقتباسًا إلى كاتب المقالات والساخر الفيكتوري توماس كارلايل ، مشيرًا إلى أن "التاريخ يتكون من خلق أبطال تاريخيين من خلال متوسطي القدرات ​​، ولولا هؤلاء الأبطال متوسطي القدرة لما امتلك المتوسط ​​شيئًا سوى وجود رتيب وحشي "

الفرد لا يعول على أي شيء في هذا الرأي. الفرد هو مجرد علف لرجال التاريخ العظماء ، الذين هم أنفسهم صانعوا التاريخ وحكامه. على نفس المنوال ، وعلى الرغم من رفضه في وقت سابق في النص بوقاحة لمفهوم الصوفية للفناء أو "الفناء" في الله ، فإن شريعتي - دون اعتبار لفصله السابق - يستدعي المفهوم الصوفي للإنسان الكامل ، أو " رجل المثالي." دعماً لحجته لـ "الرجال العظماء" كنماذج للمحاكاة. ومن المفارقات أنه في هذه الصفحات يعيد إنتاج نفس الانقسام بالضبط بين "المحاكاة" و "المحاكي" الذي دافع عنه الأصوليون وعلماء الشيعة في عصره - وهو تقسيم في مظهره ديني ، والذي بذل شريعتي قدرا كبيرا من الوقت والجهد في نقده والسخرية منه.

تشهد مثل هذه الحجج بوضوح على نخبوية شريعتي الروحية والسياسية الضمنية والصريحة ، والتي تتماشى تمامًا مع دفاعه الواعي عن امتياز القيادة الثورية في تنفيذ برنامجها الأيديولوجي الثوري بشكل حاسم بغض النظر عن التقاليد والأهواء المتقلبة للقاد. يخبرنا شريعتي أن القيادة ليست ملزمة بوجهات نظر وآراء الأغلبية. [58) "الديمقراطية الموجهة" لشريعتي ، مثل تيتو في يوغوسلافيا أو إندونيسيا في سوكارنو ، ستكون دولة الحزب الواحد أو تعيينًا مدى الحياة لزعيم الثورة ، رافضة "الليبرالية والديمقراطية الغربية الحرة". هذا لأن الناس،الذين يقارنهم بسعادة بالخراف ، سيتبعون أينما تقودهم بطونهم. بدون اليقظة الأيديولوجية اللازمة ، سوف يسحر الناس ويذهلهم "تعويذة المال" و "السحرة الديماغوجيين" ورجال الدين. بسبب هذا النقص الخطير في الثقة في قدرة الجماهير على تحسين أوضاعهم ، فهو يرى أن حق التصويت التي تضمنه الديمقراطيات الليبرالية الغربية لا يختلف بكثير عن حق الفقير لأكل وجبة الأبغشت" (aray-e azad-e abgushti) - وهو طبق إيراني تقليدي من اللحوم والبطاطس والحمص ، التي تؤكلها عمومًا الشرائح الأفقر في المجتمع.

 

يجب أن تستمر القيادة الثورية لعدة أجيال حتى يتم الوصول إلى المستويات المطلوبة من "الوعي الذاتي" ثم بالتدريج ، مع استيعاب المزيد والمزيد من الناس للرسالة الثورية للقيادة ، سيتم توسيع حق الاقتراع للسماح لهم بالتصويت . مرة أخرى ومن المفارقات إلى حد ما ، وجد شريعتي نفسه يردد الحجج المماثلة التي طرحها عدوه، الشاه ، وإن كان هذه المرة في الدفاع عن الاستبداد الأبوي والخير. كانت القيادة الثورية هي البديل السياسي الوحيد الممكن الذي يمكن أن يحطم ويعيد بناء مجتمع "رجعي" و "تقليدي متخلف" مثل إيران

 

يظهر شريعتي الثقة عندما يعلن أنه في ظل "القيادة العظيمة والسامية" سوف يتجه المجتمع نحو "الكمال المطلق"  ، "المعرفة المطلقة"  "الوعي الذاتي المطلق" ، واكتشاف "القيم المتعالية" "الأمة هي مجتمع يتحول إلى شيئ ابدي ، نحو التعالي المطلق!" هذا "التعالي المطلق" ليس إلا الله نفسه .يصبح الله بالنسبة له هو العملية الثورية نفسها ، والتي تؤدي في ظروف غامضة إلى شيء يسميه "الخلود" (العبادات) و "المطلق" ، في عملية "التطور اللانهائي" يجب تدمير وإدانة تلك التقاليد وطرق التفكير التي تعزز الركود وتعيق التقدم. هناك القليل من التفصيل حول كيفية تقييم هذه العملية وما إذا كان يمكن أن تنحرف.

يدرك شريعتي أن الإمامة تقود المجتمع نحو "الخلود" أو "الكمال" وأنه ليس تحولا يتجسد بسهولة أو تلقائيا. وهو يقر بأن هذه هي الأهداف التي تطمح القيادة الثورية إلى تحقيقها وتسعى جاهدة لتحقيقها في المجتمع. ولكن ما هي معايير عملية صنع القرار في تشكيل هذه المدينة الفاضلة أو الشروع في عملية تحقيقها؟ ما هي القيم التي يجب على القيادة الالتزام بها في عملية الكشف عن "القيم المتعالية"؟ ما هي السياسات التي يمكن أن تؤدي إلى نظام اجتماعي سياسي يُقال إنه يجسد "السمو المطلق"؟

تشرع القيادة في تنفيذ برنامج ليس على أساس "المصلحة العامة" ولكن على أساس "الحقيقة" - "الحقيقة التي تظهرها الأيديولوجيا والعقيدة التي يؤمن بها أفراد الأمة".  يقول إن أهداف القيادة مبنية على مبدأ "ما يجب أن يكون" . القيم في معيار تحديد الاحترام الذي ينبغي أن تحظى به ، وتطغى على جميع الاعتبارات الأخرى. إن مدحه للقناعة والقيادة الثورية يتنازل عن قضايا الحوار والقبول ، وبدلاً من ذلك يدمج العمل السياسي الدنيوي من جانب النخبة الفكرية المحاربة التي توجه الأمة بإحسان باسم "مصلحتها" كما يعرّفها ، مع البناء. مجتمع مثالي أو طوباوي ، وحتى مع عملية أن يصبح الله هو نفسه. في العملية الثورية ، يتأصل المتعالي ويصبح جوهريًا في العلاقات والعمليات الاجتماعية والسياسية.

يبدو أن هناك مساحة صغيرة لتقوم الثورة بتقييم نفسها ، لأن شريعتي يرفع الالتزام بقيم الثورة مما يطغى على جميع الاعتبارات الأخرى. إن مدحه للإيمان والقيادة الثورية يتنازل عن قضايا الحوار والقبول ، وبدلاً من ذلك يدمج العمل السياسي الدنيوي من جانب النخبة الفكرية المحاربة التي توجه الأمة بإحسان باسم "مصلحتها" كما يعرّفها ، مع البناء. مجتمع مثالي أو طوباوي ، مع عملية أن يصبح هو نفسه الله. في العملية الثورية ، يتأصل المتعالي ويصبح جوهريًا في العلاقات والعمليات الاجتماعية والسياسية.

وفقًا لفرزين فاهدات, فإن هذه الرؤية السياسية تنسب إلى حد كبير لرؤية شريعتي للوجود البشري باعتباره "رحلة" أو "حركة" نظرية ، وهي رحلة يبدأ فيها البشر كـ "مادة" ويصعدون تدريجياً إلى مستوى الروح الإلهية. ولكن كيف تشارك العلاقات الإنسانية الروتينية والتنظيم السياسي والنشاط الدنيوي في اجتياز وتحقيق مثل هذه "الرحلة النظرية. تلعب الأيديولوجيا دورًا طوطولوجيا في هذه المعادلة. -ما هو صحيح هو الأيديولوجية والأيديولوجية هي ما هو صحيح-. علاوة على ذلك، لا توجد قدرة على النقد،لأن النقد أيضًا ، افتراضيًا ، يفتقر إلى الالتزام. هذا ليس سوى جزء واحد من الإرث الفكري والسياسي لشريعتي، والذي سيستمر بلا شك في إثارة نقاش حاد.



مصدر

https://www.pbs.org/wgbh/pages/frontline/tehranbureau/2011/10/ali-shariati-and-the-ideologization-of-religion.html

الاثنين، 12 أبريل 2021

الجوكر والعمل الفني

 


تقوم مهمة الفيلسوف على استنطاق المقولات من الأفعال أو المواقف, والمواقف قد تكون متضمنة في عمل الفنان أو المٌخرج أو رد فعل الشارع, وأول مواقف العالم هو " الصمت " ولم تظهر ثنائية اللغة والحقيقة إلا فيما بعد, حين يظهر الفيلسوف ليخبرنا عن موقفنا الصامت, بهذا السياق يمكن أن يضع أحدهم عبارة كـ "مالا نستطيع الحديث عنه، ينبغي أن نتجاوزه في صمت" فيتغشنتاين. 


ماهي المواقف التي نراها اليوم؟



يقدم فلم الجوكر محاضرة أخلاقية عن  فئات المجتمع المسحوقة رغم وجودها متوالية عبر التاريخ, ولا يتوقف الفلم على استعراض معاناة تلك الفئة, بل يُنزل في تأويل مألاتها إلى مفاهيم جديدة في امراض الطب النفسي وماشابه. عندما تشاهد الجوكر فأنت تشاهد رسالة أخلاقية وعظية عن حال الفئات التي يفترض صاحب الفلم أنها منسية في المجتمع الحديث..ويقدم لها رؤية تفترض أنها حديثة وإن لم تكن كذلك..أي أنت امام بروباقندا وعظية أخلاقية وليس فن كما يظهر في سلسلة هنقرقيمز على سبيل المثال.

 من هذا يمكن فهم أن فلم الجوكر سيكون في طي النسيان, ولن يكون عملًا خالد. وهو فلم اجتماعي وليس نفسي وإن كان في نقطة ما لا يمكن الفصل بين الاجتماعي والنفسي.

 وفي هذا السياق يمكن الحديث عن عملين .. "ديكستر" .. و "يو" حيث يقدم العملان مشهد فني يمكن التعبير عنه




ديكستر مورجان, الفتى المتبنى من رجل يعمل في شرطة ميامي, يكتشف والده القانوني نزعة ابنه للدم, يحاول المخرج مرارًا وتكرارًا عكس حالة ديكستر كحالة مرضّية جراء صدمة طفولته حيث وُجد في حمام من دم والدته المقتولة والتي لا يملك اي ذاكرة عنها سوى مشهد بدنها المُقطع.. تدور فلسفة ديكستر على ما تعلمه من والده بالتبني, "لايمكن أن تخفي نفسك بالعلاج, لكن يمكن ضبطها".

 يبدأ ديكستر في وضع قانون أخلاقي ليعرف نفسه خلاله, ولكي يمرر هذا القانون فهو يقوم بحيلة نفسية بفصل ذاته القاتلة عن ذاته الواعية تحت مسمى "الراكب المظلم".يخبرنا ديكستر الكثير عن معنى الذات الإنسانية لكننا لسنا بصدد ذكرها هنا. لا تخلو شخصية ديكستر من المشاعر, فهو يقع في الحب والذي قد لا ينتهي بالطريقة المناسبة,لمخالفته قواعده.

يبدأ صراع ديكستر النفسي الاخر عندما يتسبب في مقتل زوجته,التي لم يحبها يومًا (بالمعنى الرومانسي للحب), لكنها كانت تتماشى مع قانونه الأخلاقي والاجتماعي.. في هذا المشهد .. حيث يفهم حينها ديكستر دور زوجته الحقيقي.. ثم يرتد سريعًا بعد رؤيتها في حمام الدم

https://www.youtube.com/watch?v=yWt9YTdoCZg

يقدم لنا صانع هذا العمل الصراع في مشهد فني مبهر.. ديكستر الفيلسوف القاتل, ليس مكافحًا للجريمة ليس باتمان أو سوبرمان..ليس جاك ذا ريبر أو قاتل متسلسل..ليست هذه صورة العمل.. ولن نحلل المشهد أكثر من هذا..حيث الكثير يمكن قوله عن ديكستر مورجان.. لا يمكن أن يكون ديكستر أحد المذكورين فديكستر يقدم رؤية مختلفة للذات الإنسانية لم يدركها القاتل المتسلسل أو البطل الخارق..ذات ديكستر موضع شك متواصل خلال سير العمل..فذاته مقسمة لثلاث أقسام, - الاب,الهوية المظلمة,الهوية الصالحة - ديكستر يرى نفسه في الذات الصالحة حيث يكاد يعترف لأخته مرارًا, حينها يظهر الأب ليرجح كفة الهوية المظلمة, ليخبره أنه لن يكون صالحًا ابدًا, وكل ما عليه هو تعريف نفسه وفق قانون محدد إذا كان يرغب أن  يظهر كرجل صالح على الأقل.. فـ- ما هوية الإنسان في المقام الأول؟




ننتقل إلى قصة "يو"..هل يمكن مقارنة جو جولدبيرغ  بديكستر مورجان لاشتراكهم بعملية القتل؟ أو حتى أي مصاب بعلة نفسية أخرى؟

يمكن ذلك, لكن هذا مالا يحدث في سياق المسلسل..جو جولدبيرغ يشترك مع ديكستر بعملية القتل فقط, وليس الدافع  لعمله..حيث يتكرر مشهد الاب المتبنى عند جو بصرامة صاحب المكتبة الذي يضع جو في قبو المكتبة تحت اختبارات وضغوط مختلفة.. يخرج جو بمركب نفسي لا يخلو من الانضباط والقوانين الصارمة ويكاد لا يرى حياة الاخر في سياق مختلف لم يمر فيه.. لا يطرح جو سؤال ذاته كديكستر, بل يطرح السؤال عن ذات الاخر!

فهو يقتل مرارًا وتكرارًا لا عمدًا بل اضطرارًا, لأنه يطبق المنطق الصحيح, وليس رغبة " الراكب المظلم " (كما عند ديكستر الذي كان سينتهي بالقتل بلا معيار أو قانون لولا توجيه والده).. جو يقدم رسالته الاجتماعية في هذا المضمون..رسالة الرجل الحديث.. لم يقتل جو النساء التي صاحبهم (كما يتصور المشاهد عمومًا) إنما ايضًا قتل اضطرارًا لحماية طفلين مختلفين في سلسلة الاحداث..حيث تبين تلك الأحداث أن مشكلة جو ليست في علاقته بالنساء بل علاقته بالعالم..يقدم جو كل ما يستطيع في علاقاته الحميمية لكنه يكتشف خيانتهن, وهو يكاد لا يفهم لماذا يحدث هذا في الوقت الذي تدّعي كل رفيقة له سعادتها معه..لا يختار جو المغادرة حين اكتشاف هذه الخيانة..بل يقرر عقله المنضبط بقانون قبو المكتبة أن يعالج المشكلة..والمشكلة في ظنه هي افتراض أن خليلته مختطفة عقليًا ولا تعي ما يحدث حولها (حيث يمكن أن تكون ذلك لكن ليس بهذا السياق)..وهنا يسيء جو فهم العالم..لأن العالم هو ما يوافق قانونه..فهو لا يستطيع تصور العالم في ذهن الأخر.

يمكن أن يثير جو إعجابك, حيث يعمل جو كـ أمين مكتبة,ويظهر كشخص مثقف فيلسوف ويملك عبارات جذابة وفهم منطقي لمنطلقات الأمور.. إلا أنه يفشل في نقطة ما..حيث حينها تنهار صورة جو المثقف إلى أحمق..رغم أنه ليس كذلك..وينجح المخرج بإقتدار بإظهار هذا المركب.. فجو يحلل ويفكر ولديه قدرة على تحليل الآخر إلا انه يفشل حيث يفشل المجتمع الحديث


لا يخلو هذا العمل من طابع كوميدي, فهو يقدم لنا تراجيديا انسانية حقيقية للذكر (الرجل الحديث) في قالب كوميدي حيث لا يستاء احد من مشاهد القتل التي تحدث في هذا العمل..بل يتعامل الجميع مع جو ك شخص احمق لا يستطيع الحفاظ على علاقاته بالتالي ينتهي بغضب احمق لأن يقتلهن بطريقة غير مخطط لها.. ومن يرى جو فقط في هذا السياق ,لن يستطيع تفسير عدة مشاهد في العمل.. ك حمايته للأطفال.. أو المشهد التراجيدي الأكبر حيث تصبح  رفيقته " لوف كوآين" شريكته بالجريمة.. لكن جو لا يقبل هذا.. ما الذي يجعل جو يفزع من لوف كواين؟ والتي اخيرًا تقبله كما هو ( أو كما يعتقد المشاهد الساذج)



في هذا العالم, الذي يرغب بترك جو خارجه.. هل يوجد مكان لهرمون الذكورة في العالم الحديث؟ في عالم حيث تفكر الآلة, هل يحتاج العالم لهرمون الزهد والتقشف واندفاعية حماية العائلة والسلطة..على العكس من ذلك..

يقدم لنا مسلسل (انمي) سايكوباس, عالمًا متخيلًا تفكر فيه الآلة بل تحكم وتدير وتنهى وتأمر..ماذا يحدث لجو في هذا العالم؟



يمكن لجو في هذا العالم أن يكون تحت خيارين, فإما أن يكون كلب : وهو المصطلح الذي يطلق على الأفراد الذين تستخدمهم الشرطة لأنهم الأفراد القادرين على مهمات القتل كما لا يمكن ضبط او التحكم في مستواهم النفسي بالمعنى البيولوجي.. تحتفظ الشرطة بالكلاب تحت سيطرتها داخل مبنى الشرطة حيث لا يسمح لهم بالإختلاط مع عامة الناس لأن قدرتهم على المبادرة في أعمال الحماية والقتل لا تناسب المجتمع الحديث (ويغيب مصطلح الشرطة في هذا العمل حيث الشرطة مرادف لمستشفى نفسي كبير).


أو يمكن لجو, أن يغادر للمنطقة المهمشة الفقيرة التي تسيطر عليها العصابات خارج طائل القانون, وهي منطقة تكاد ان ترى فيها مجتمع متنوع من الأشخاص الجيدين أو السيئين والذين قد لا يميلون جميعهم للقتل ولكن يمكنهم فعل هذا إن لزم الأمر.



 وهنا يقدم لنا هذا العمل المثير معضلات حقيقية. حيث تظهر شخصية شوجو ماكشيما التي يطلب من "المفتشة الشرطية" أكاني أن تستخدم البندقية القديمة لقتله وأن تحمي صديقتها..لكنها ترفض لأنها لا ترغب في أن تتحمل نتائج القتل النفسية.. والتي قد تصنفها من مفتشة إلى فئة الكلاب..وبسبب هذا القرار تتعرض صديقتها للقتل

فهنا لا يقرر الإنسان ولا يبادر..فقط قانون العرافة الآلي يخبرك من يستحق القتل وهو مبني على تحليل نفسية المجرم .. المبادرة بالقتل تعني أنك لا تقل إجرامًا عن هؤلاء الخارجين عن القانون..فإن كنت تحمل هذا الحس المبادر فأنت خطر على هذا النظام الاجتماعي




لا تنتهي معضلات هذا المسلسل عند هذه النقطة..بل تكتشف المفتشة أكاني والتي بدأت بعد عدة حوارات مع الفيلسوف النفساني بإكتشاف هذا العالم.. وتكتشف أن العالم يدار من آلة وليس إنسان.. وأن خوارزمية هذا العمل الآلي الضخم مبني على ادمغة أو عقول, جو جولدبيرغ , وبقيتهم الذين يمثلون العالم القديم! ف القانون الأخلاقي المصاغ لهذا العالم المسالم وقياس صحته النفسية, هي بمعرفة ادمغة هؤلاء المبادرين القتلة.. .ويقوم قانون العرافة على احضار ادمغة هؤلاء الخارجين عنها وتقديم ادمغتهم للآلة الضخمة التي تدير العالم .. فهو قام على منطقهم لكنه يرفضهم.

ويمكن الاستدلال بمشاهد تاريخية  كمثال في المجتمعات القائمة والسابقة, لكننا لسنا بصدد عرضها هنا


وهذه المعضلة قدمها لنا ماكس فيبر في وصف البيروقراطية : حيث أن في قمة العمل البيروقراطي ستجد عنصر ليس بيروقراطيًا.

أو كما يقدمه لنا " جوديل " في المنطق الرياضي : إن أيّة صياغة لنظرية الأعداد، منبثقة من عدد من المسلمات غير المتناقضة، لا بد أن تكون غير كاملة


ولهذا يخبرنا روجير بينروز أن لايمكن للآلة التفكير